منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة وفتح الجبهة اللبنانية لدعم المقاومة الفلسطينية، عادت المُسيّرات الطائرة إلى سماء الجنوب اللبناني لتصبح النجمة المشؤومة لهذه الحرب الدموية المستمرة منذ أكثر من شهرين. تستخدم «إسرائيل» هذه المُسيّرات للاستطلاع والتعقّب وأحياناً كثيرة للقيام بعمليات تصفية جسدية أو لضرب أهداف محدّدة. تتميّز بعض هذه المُسيّرات بأزيزها المزعج الذي يُسبّب القلق والتوتر لأهل الجنوب (يُطلق عليها في غزّة «الزنّانات» وفي لبنان «أم كامل»)، فيشعرون بأنّ ذبابة عملاقة تطنّ فوق رؤوسهم طوال النهار، وأحياناً تُحلق على علوٍّ منخفض، فيشعرون بأنّها تقيم معهم في المنزل.
تستدعي الدرون عناصر من الخيال العلمي والديستوبيا حيث تهيمن التكنولوجيا على المجتمع ويسود الحكم التوتاليتاري

لقد ظهرت المُسيّرات للمرة الأولى في إنكلترا عام 1917، وتمّ تطويرها عام 1924، لكنّها دخلت ميدان المعارك فعلياً في حرب فيتنام، إذ استخدمتها الولايات المتّحدة لتحديد منصات إطلاق الصواريخ السوفياتية SAM-2 للقوات الفيتنامية الشمالية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت أداة مهمة لإجراء مهمّات الاستطلاع والتجسّس وجمع المعلومات وراء خطوط العدو، وأخيراً استُخدمت على نطاق واسع لشنّ عمليات هجومية في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
لقد أحدثت هذه المُسيّرات ثورة كبيرة في العمليات العسكرية، ولكنّها أثارت في الوقت ذاته أسئلة أخلاقية وفلسفية حول شرعية استعمالها في الحروب. يرى الفيلسوف الفرنسي غريغوار شامايو صاحب كتاب «نظرية الدرون» (2015) أنّ الحرب التي تجري بواسطة الطائرات بدون طيار، لم تعد حرباً حقيقية بالفعل، لأنها حوّلت العدو إلى بيانات افتراضية. ينتقد الفيلسوف الطابع المُرعب لقدرة الدرونات المفترسة (Predator) على تصدير القوة والموت من دون أن يتعرض الجندي الذي يتحكّم بها للخطر بسبب الانفصال الكليّ بين السلاح والقاتل، ويستنكر ما يعتبره عامل الإفلات من المسؤولية في نظرية صناعة الدرونات التي لم تعد تكتفي بالتلصّص والتنصّت ورصد أي حركة، بل تمارس أيضاً سلطة العقاب من دون أي مساءلة قانونية. يُشبِّه شامايو الشخص المتحكِّم بهذه المُسيّرات بمحرِّك الدمى في مسرح العرائس، فهو يدير الموت من السماء من دون إعطاء أي فرصة للطرف الآخر للدفاع عن نفسه والقيام بردّة فعل. ينتقد شامايو طبيعة الضربات التي توجّهها المُسيّرات الطائرة، مشيراً إلى أن معظمها لا يستهدف أفراداً محدّدين، بل سلوكيات تُعتبر مشبوهة. هذا النهج في اصطياد البشر، الذي يستند إلى خوارزميات وبيانات رقمية، يفترض وقوع الشر قبل حدوثه فعلاً، لينشأ شكل جديد غير تقليدي من عنف الدولة يجمع بين الخصائص العملية والنظرية لمهام الشرطة والجيش معاً. كذلك، يُحذر شامايو من أسطورة «الحرب النظيفة» التي روّجت لها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لمحاربة الإرهاب، مدّعيةً أنّ الدرون هو سلاح إنسانوي أساسه الدقّة وغياب الخسائر الجانبيّة، ويرى أنّ المُسيّرات تحوّلت إلى آلات للقتل والإبادة، مشكّكاً في شرعية استخدامها حتى في حالات المراقبة والوقاية والحماية.

«سجادة درون» للفنان التركي خليل ألتندير ــ 2023

من جهة أخرى، تحمل المُسيّرات العسكرية رمزية معقّدة تستحضر القوّة التكنولوجية والجدل الأخلاقي في آن معاً. غالباً ما يتمّ ربطها بمسألة المراقبة المستمرة والتجسّس على الأفراد والجماعات، مستدعيةً بالتالي عناصر من الخيال العلمي المظلم والديستوبيا حيث تهيمن التكنولوجيا على كل مفاصل المجتمع ويسود الحكم التوتاليتاري. بالتوازي مع ذلك، تثير الطائرات بدون طيار مقارنات مع المخلوقات الأسطورية مثل «طائر الأرغوس» في الميثولوجيا اليونانية الذي يملك مئة عين نصفها يظل مفتوحاً دائماً. إنه رمز لليقظة والحذر الدائم. تقول الأسطورة إنّ هيرا ملكة الآلهة كلّفت الأرغوس بمراقبة «لو» عشيقة زوجها زيوس. وعندما علم هذا الأخير بتجسّس هيرا عليه، غضب بشدّة بسبب انتهاك خصوصيته، وطلب من ابنه هرمس قتل الطائر، فقام هرمس بتنويمه من خلال العزف على نايه السحري ثم قطع رأسه. بعد مقتل الأرغوس، وضعت هيرا العيون المئة على ذيل حيوانها المُفضّل الطاووس. هذه المقارنة تشير إلى قدرة الدرونز على المراقبة الواسعة والدائمة. كما تُسلّط هذه الاستعارة الرمزية الضوء على كيفية تجاوز التكنولوجيا الأنماط الأسطورية، فقدرات المُسيّرات تفوّقت بالفعل على تلك التي يتحلّى بها طائر الأرغوس صاحب العيون الكثيرة. كذلك، يمكن أن تستدعي الدرونات، من خلال قدرتها على جمع البيانات من منظور مرتفع، أسطورة الإله الإسكندينافي «ثور» الذي يمتلك نسرين يجمعان له بشكل مستمر معلومات حول ميدغارد (الأرض).
يعتبرها غريغوار شامايو شكلاً جديداً وغير تقليدي من عنف الدولة


من جهة أخرى، يطرح ظهور الطائرات بدون طيار، تساؤلات عميقة حول تأثيرها على قيم الرجولة المرتبطة تقليدياً بالشجاعة وبعضهم يعتبر أنها سلاح الجبناء الذين يختبئون وراء الشاشات. من خلال تمكين الجنود من القيام بالعمليات العسكرية عن بعد، تخلق آلات الحرب هذه تحدّيات جديدة حول صورة الذات التي يملكها المحاربون الذكور حول أنفسهم داخل القوات المسلحة مقارنة بالحروب التقليدية التي تتطلّب القوّة والمهارات الجسدية والبطولة والحضور في الميدان. لذلك يتمّ ربط مُشغّلي الطائرات بدون طيار بالمواقف النمطية للأنوثة. ينشأ هذا التأنيث الرمزي من التشابه الحاصل بين حالة هؤلاء الجنود وحالة المدنيين من النساء والأطفال الناتج عن مكوثهم في المقرات العسكرية الآمنة وعدم مشاركتهم الجسدية الفاعلة في المعارك وابتعادهم عن الجبهات، وتحوّلهم بالتالي إلى أرواح يجب حمايتها بواسطة التكنولوجيا العسكرية.
بالتوازي مع ذلك، يمكن أن تخلق هذه المُسيّرات الطائرة توتراً داخل المجتمع العسكري الذكوري التقليدي، حيث تتمّ تنمية روح الزمالة والتضامن غالباً من خلال التجارب العسكرية المشتركة على الأرض. قد يؤدي غياب المخاطر الجسدية المباشرة لمشغّلي الطائرات بدون طيار إلى تنامي الشعور بالفجوة الكبيرة وغياب العدالة بين الجنود الذين ينتشرون على الأرض، والجنود الذين ينفّذون العمليات عن بُعد.
لحسن الحظ، لم تعد المُسيّرات في العقد الأخير حكراً فقط على أميركا وإسرائيل والدول الإمبريالية لتمارس عنجهيتها من السماء على المساكين في الأرض، إذ انتشرت هذه التكنولوجيا عالمياً، وبدأت بلدان عديدة بتصنيع الطائرات بدون طيار واستخدامها ضد مبتكريها ومطوّريها الأصليين، وأصبحت المقاومة سواء في لبنان أو اليمن أو فلسطين تعتمد على هذه المخلوقات التكنولوجية في حربها المستمرة ضد معسكر الشّر المطلق لينقلب السحر على الساحر، ويتجرّع العدو كأس العلقم التي لطالما سقاها الآخرين.