«ثمة طريقٌ لا تفتحُ مداخلها أمامكَ، كأنكَ لم ترَ قبلاً جوانبها، هوامشها المُزنّرة بالمفاجآت الجميلة، وإنْ جاءت مُتأخرة، فليسَ ثمةَ تأخير على بندول القلب». هكذا عرف الشاعر الغزاوي الطريق باكراً إلى السماء، بعدما رأى جوانبها في غزة. سليم النفار (27 آب/ أغسطس 1963 - 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023) الذي عاش بين سوريا ولبنان قبل أن يعود إلى غزة في عام 1994، اغتيل مع عائلته قبل أيام أثناء قصف طائرات العدو الإسرائيلي البناية التي كان يحتمي فيها في حيّ النصر في غزة. لم ينتشر الخبر سوى أول من أمس، إذ لم يتأكد الجميع من خبر استشهاده لأيام عدة، في ظل ما يعيشه القطاع من صعوبة انتشال الجثث. كانت يافا، مدينة أجداده حاضرة في ذهنه أثناء كتابته للنصوص كما قال يوماً، فالشعر برأيه يحمل دوماً رسالة، هو الذي أسهم في المشهد الثقافي العربي، منذ أن كتب الشعر باكراً في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، ونشر قصائده في المجلات والجرائد العربية. أصدر العديد من الدواوين الشعرية منها: «تداعيات على شرفة الماء»، و«سور لها»، و«بياض الأسئلة»، و«شرف على ذلك المطر». كان أيضاً ناشطاً سياسياً في صفوف «منظمة التحرير الفلسطينية»، حتى عودته إلى غزة مع السلطة الفلسطينية عام 1994 وقد أسهم في تأسيس «جمعية الإبداع الثقافي» في غزة عام 1997، وعمل مديراً في وزارة الثقافة الفلسطينية، كما كان محرراً أدبياً في مجلة «نضال الشعب»، وعضواً في الأمانة العامة لـ «اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين». استُشهد والده في لبنان عام 1973، وكان لذلك الأثر الواضح في كتاباته وقصائده التي آثرت وزارة التعليم الفلسطينية تضمينها في منهاج التعليم للصف الثالث الإعدادي.
بالنسبة إليه، الشعر ذهاب نحو الأعماق، كما قال في قصيدة له: «فهذا الشعر أدغال، وإيغال بأعمال له الصدف». هكذا كانت علاقة الشاعر بالكلمة، في شعره الذي بقي حاضراً مع الوقت يطفح بالوعي والعمق، يتلمّس الأرض التي أتى منها وأخذها، فكان الشعر في قلب المعركة. قال في حوار له عن دور الكلمة في معركة الوعي: «لم تكن الكلمة ولن تكون معادلاً موضوعياً للطلقة، ولكن أهميتها تكمن في شحن النفوس ورفع العزائم، وتشكيل الوعي المسبق لحالة المواجهة». قبل سنوات من اغتياله، منعه الاحتلال من زيارة الناصرة للمشاركة في مهرجان الشعر هناك، فأعادوه من معبر بيت حانون. لكنهم لم يستطيعوا بالطبع اغتيال الشعر فيه. يقول عن تجربته الشعرية إنّها صيد لا يشبع، وإنه لم يستطع الاكتفاء بكل ما كتبه، متأثراً بالشعراء الفلسطينيين على رأسهم محمود درويش، وسميح القاسم، ومعين بسيسو، وغسان كنفاني، إضافة إلى شعراء العرب كالمتنبي، وزهير بن أبي سلمى، وأبي تمام الذي أسره بقصيدة «العمورية». لذلك تعلّم في صيده الشعري، أن يكتب منحازاً إلى جمالية النص الشعري، مهما كان ما يكتبه موزوناً أو غير موزون.
«نضيف الوهم في أحلامنا، كي نرى ما لا يُرى، هل هكذا الأحلام؟» يسأل الشاعر عن أحلامنا الباقية، وهو يعلم أنّ هذا العدو أمامنا، يستهدف الأحلام والكلمات والأسئلة، فاغتال الشعراء والفنانين والصحافيين والإعلاميين، منهم الشاعرة هبة أبو الندى، والفنانة هبة زقوت، والفنانة المسرحية إيناس السقا، والفنانة التشكيلية هبة عبد الكريم الكلوت، والكوميدي علي نسمان، وغيرهم. في استهدافه واغتياله لهؤلاء الشعراء، فإنه يُكمل حرب إبادته على الكلمة واللوحة والمسرحية، ولكن الكلمة تبقى رغماً عنه.
استُشهد والده في لبنان عام 1973، ما ترك أثره الواضح في كتاباته وقصائده


في سيرته الذاتية «ذاكرة ضيّقة على الفرح»، يتحدّث سليم عن حجم المعاناة التي لقيها الأطفال الفلسطينيون وهم يتنقّلون من منفى إلى آخر في البلدان العربية. يتذكّر منفاه الأول في الأردن، يوم اقتاده جده من مخيم الشاطئ. كان عمره وقتها خمس سنوات، فغادر يافا عام 1968. في الكتاب الصادر عن «مكتبة كل شيء في حيفا»، يحكي عن علاقته بالشعر، وعلاقته بأمه وجده وكذلك عودته إلى غزة، فيحكي أنه قبيل مغادرته مقرّ عمله في مدينة اللاذقية، جاءته الإشارة بضرورة التوجه إلى دمشق لترتيب الرحيل إلى غزة، فحصلت أمور كثيرة كانت تهدد حلم عودته. أما روايته «فوانيس المخيم»، فهي تتناول الحقبة التاريخية منذ أواسط السبعينيات إلى ما بعد الخروج الفلسطيني من بيروت، بعد الغزو الإسرائيلي وتعرّج على الحرب الأهلية في لبنان وانعكاساتها على فلسطينيي الشتات. وكانت هذه الرواية عمله الأول بعد دواوين شعرية عديدة.
تحضر في أذهاننا قصيدته: «سنأتي ذات يوم يا أحبائي/ إلى أشيائنا الأولى/ فلا قتل يباعدنا/ ولا زمن ينسينا/ هنا في غامض الأوقات/ وضوح الوقت يعلينا/ ويعطي حلمنا سندا». ما يسندنا في تلك الحرب الهمجية التي يشنها العدو على الكتّاب والشعر هو بقاء الأثر ليضيء طريقهم الذي غطاه الدم، مثل حياة مؤجلة تنتظر. كان هؤلاء الشعراء مثل أقمار تسطع كلماتهم في عتمتنا كما قال الشاعر سليم النفار:
«هلْ تُراهُ... ناسياً أصلَهُ؛
أو حدودَ المقامِ المُزنَّرْ... بالخلايا
في نَقِيِّ العظامِ
في صدورِ الغمامِ العميمْ؟
صارخاً كان النَّهارُ
لم يُزاولْ مهنةً غيرَ السّطوعْ
كلَّما اشتدَّ الظلامُ
حاولَ الرَّاجفونَ بهِ حيلةً،
لكنَّهُ:
يقظٌ مثلَ خفقِ القلوبْ
لا يُغادرْ حِمىً في الضلوعْ»



فارس بقوس من يقين
نعت اللجنة المركزية لـ «جبهة النضال الشعبي الفلسطيني» شهيدها ورفيقها المناضل الكاتب الروائي والشاعر الفلسطيني سليم النفار، عضو اللجنة المركزية للجبهة، «الذي ارتقى شهيداً في جريمة احتلالية بشعة بقصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي لحيّ النصر في مدينة غزة، إذ أسفرت هذه الجريمة الإرهابية عن استشهاد كل أفراد عائلته». وأكدت أنّ استشهاد الشاعر يشكل خسارة للثقافة وللمثقفين الفلسطينيين، الذي «قدم مساهمات جادة للشعر وللثقافة الوطنية الفلسطينية، ودائماً ما كان نشاطه الأدبي والبحثي محط تقدير واهتمام، وكانت أعماله الشعرية ومساهماته الأدبية تحفّز على الإبداع، وكرّس جلّ حياته من أجل قضية شعبه وحريته ونضاله»، إلى جانب «مشاركته الفاعلة في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي ودوره في تأصيل الذاكرة الجماعية لشعبنا والحفاظ على موروثنا الثقافي ورواياتنا الوطنية والحضارية». وختمت بأنّ «دماء الشهداء ستُنير لنا الطريق دائماً في مسيرتنا الوطنية والكفاحية لتحقيق أهداف وتطلّعات شعبنا وحقه في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة». من جهته، نعى «الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين»، عضو أمانته العامة السابق الشاعر سليم النفار، وجاء في بيان النعي: «كان سليم مصطفى النفار فارساً بقوس من يقين، لا تلين سهامها ولا تتراقص في مسارها الذي أكدته حنجرة الشعر العالية كلما تأهبت نابغته أمام الجمع الذي أحبه شاعراً مناضلاً، وحضوراً بهياً لا ينقصه هيبة (...) يغيب الشهيد والشهداء ليبقى الصوت، ولتبقى السيرة، وتبقى الذكريات وارفة تنطق عن أنجم تهمس في وجدان الأحياء عن مظلوميّة ومقتلة فتحت أنهر الوجع على طبقاتها الأعمق».