تعيدنا حرب الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني على غزة، إلى التفكير في الرواية الفلسطينية ومدى تأثرها بالمجازر التي تحدث. يخطر سؤال في أذهاننا: هل هناك أدب إبادة؟ كما أن هناك أدب السجون وأدب المنفى وأدب الكوارث وأدب الشتات وأدب الهولوكوست. نعود إلى قول غسان كنفاني بأنّ الصهيونية الأدبية قد سبقت الصهيونية السياسية. هناك أيضاً أدب القنبلة الذرية الذي وثّق الإبادة التي حدثت لهيروشيما وناغازاكي، وقد راج في فترة الستينيات من القرن الماضي. تقول الروائية اليابانية يوكو أوغاوا، بأنّ الأدب هو ملجؤنا عندما نضطر إلى مواجهة التناقضات التي تتجاوز العقل. من أبرز أدباء القنبلة الذرية تاميكي هارا الذي ولد في هيروشيما، وأصبح أحد الناجين من القصف النووي. ولا ننسى طبعاً أدب الإبادة الأرمنية، فهناك رواية «يريفان» لجيلبيرت سينويه التي تتحدث عن إبادة الأرمن ووقائع تلك المجازر في عصر السلطان عبد الحميد الثاني.
زكي سلّام ـ «النكبة»

وربما يجعلنا أدب الإبادات هذه نطرح سؤالاً صعباً عن طبيعة النصوص التي ستُكتب بعد حرب الإبادة في غزة: هل ستكون توثيقاً لما حدث، أم ستعكس خيالاً مستوحى من الأحداث، علماً أنّ هناك أيضاً أدباً للمجازر ورد سابقاً في روايات فلسطينية كثيرة منها روايات إبراهيم نصر الله، و«بنت من شاتيلا» لأكرم مسلم، وقد استطاع الشاعر الراحل محمود درويش أن يوثّق لمجزرة تل الزعتر في قصيدته «ليدين من حجر وزعتر»: هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين مضت الغيوم وشرّدتني، ورمت معاطفها الجبال وخبأتني». في هذه القصيدة، كتب «شاعر الأرض» عن المخيم بطريقة فنية خيالية مختلفة تطرح رؤية جمالية للمجزرة، ففي سؤال التوثيق، تصبح القصيدة بحثاً جمالياً عن الأمل.
لقد طرحت الرواية الفلسطينية أسئلة كثيرة عن النكبة، والمخيم ووقائع حدثت بالفعل في فلسطين والشتات، وبقي سؤال كتابة روايتنا الفلسطينية مفتوحاً للنقاش كأنها لم تُكتب بعد. يقول بعضهم إنّه ربما علينا تأريخ تلك اللحظات التي طمرها التاريخ، كما أشار إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين». الإبادة التي حدثت والتي سمّيناها نكبة، آثر تسميتها «تطهيراً عرقياً» لأنّ العبارة تُشير ـ برأيه ــ إلى دناءة وإجرام الفاعل. لكن كل ما كُتب عن النكبة تضمّن قصصاً وسيراً عن أقرباء وكانت جزءاً من حكايات شفوية، وأخرى من أحداث تاريخية. كما كتب إبراهيم نصر الله «الملهاة الفلسطينية» وهي ملحمة روائية تاريخية غطّت 250 سنة من تاريخ فلسطين الحديث. تتضمن الملهاة، «قناديل ملك الجليل»، و«زمن الخيول البيضاء»، و«طفل الممحاة»، و«طيور الحذر»، و«زيتون الشوارع»، و«مجرد 2 فقط»، و«أعراس آمنة»، و«تحت شمس الضحى»، و«ظلال المفاتيح»، و«سيرة عين»، و«دبابة تحت شجرة الميلاد». هذه الروايات إضافة إلى غيرها من الأعمال لروائيين فلسطينيين آخرين، تطرح سؤالاً حول أهمية التوثيق في الأدب، وما إذا كان سيصبح جزءاً من الأدب الفلسطيني المعاصر.
آثر إيلان بابيه وصف النكبة بالتطهير العرقي لأنّ العبارة تُشير إلى دناءة وإجرام الفاعل


طبعاً، سيكون هذا الأدب بمثابة وثيقة إنسانية، ننقلها إلى أجيال من البشر، لا لنقول روايتنا الفلسطينية فقط، بل لتكون أيضاً شهادة إنسانية على معنى أن يكون هناك أدب وفن في العالم في زمن الظلم والاحتلال. ألم نعد مراراً إلى نص جان جينيه عن مجزرة صبرا وشاتيلا، التي قال فيها إنّ «الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة. إنها لا تقول لنا القفزات التي يتحتّم القيام بها عندما نتنقّل من جثة إلى أخرى». هنا ربما يدعونا جان جينيه إلى التفكير بأنّ الأدب سيوثّق ما حدث أكثر من الصورة على أهميتها. وفعلاً بعد كل هذا الزمن، ما زلنا نستعيد نصّ الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي كلما استعدنا ذاكرة صبرا وشاتيلا.
لذلك تأتي الرواية الفلسطينية تحديداً من عمق المأساة لتتحدّث عن واقع أليم، لا يمنع أحياناً امتزاجه بالخيال أو بالفلسفة أو الواقعية السحرية، لكنه لا بد من أنّه يطرح إشكاليات الوجود الفلسطيني، وإبادته التي تحدث على مرأى من العالم. ومن هنا تأتي ضرورة تدريس هذا الأدب في المدارس، وجعله بمثابة دروس في التاريخ، كي لا تمرّ مجازر عدو الإنسانية هكذا من دون كاميرات الأدب والفن والتاريخ والفلسفة والحياة كلها.