قرابة ستة آلاف طفلٍ فلسطيني استُشهدوا في حرب الإبادة على غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ناهيك بآلاف المفقودين. في غزة، قتلت إسرائيل طفلاً كل عشر دقائق، ومنهم خُدّج، فيما يعاني أكثر من مليون ونصف المليون من الأطفال من انعدام الأمن الغذائي، والتشرّد، التيتّم والإصابات الجسدية الدائمة.وفي غزة، أكبر سجون العالم وأكثرها ظلماً، يحيا الأطفال الفلسطينيون محرومين من حقوقهم في الأمن والأمان، ومن المقومات اللائقة من المسكن، والغذاء والصحة والتعليم والتحرّك والتنقل والحياة. هذا في أيام «السلم».
منذ عملية «طوفان الأقصى»، لم تتردد ماكينة القتل الإسرائيلية في جرّ مخالبها السامة لنهش أجساد الأطفال بكل ما أوتيت من عدوانية وهمجية وقدرة على الافتراس. استهدفت المنازل المدنية الآمنة ومراكز الأمم المتحدة، والمدارس ومخيمات اللاجئين والمستشفيات وأسرّة حديثي الولادة وأقسام علاج الأطفال لتسحق أحقية الأطفال في الحياة والأمان، ناثرةً المواثيق الدولية والاتفاقيات ووعود المنظمات الدولية التي «تسهر» على وضع شروط وبنود تحرّم استهداف الأطفال أثناء الحروب والصراعات وتقدّس أمنهم وبراءتهم وعمرهم.
جرائم لا تُحصى ولا تناقض طبع الكيان الصهيوني الذي بنى جبروته على سفك الدماء وجسّد «القوة» بقدرته اللامتناهية على ارتكاب الجرائم و«التفظيع» في كل الحروب التي يخوضها، قبل أن يُهزم. لكن حروب اليوم اتّكأت على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية وعلى سرعة نقل الأخبار بالصور والفيديو، ففُضحت الأكاذيب وتبيّنت الحقائق وكُشف الزيف، وعلت أصوات ناشطين كثر هبّت حساسيتهم الإنسانية نتيجة هوْل المشاهد، فكانت لوجودهم الافتراضي انعكاسات حقيقية في تشكيل رأي عام متعاطف بشكل أكبر مع القضية الإنسانية.

الإبادة تكشف عن الشعب الجبّار
أكثر من 40 في المئة من الشهداء في غزة هم من الأطفال، وفق منظمة الصحة العالمية، منهم من استُشهد برفقة جميع أفراد عائلته، ومنهم من ترك أمّاً مفجوعة وأباً مُثقلاً وأخوة يصارعون البقاء. بين أطفال الشهداء واليتّم، يعتصر القلب قهراً سرعان ما يتحوّل إلى قوة. قوة تدفع الطفل على حمل أخيه بين سواعده في انتظار الكفن، وعلى صوت الغارات يدفن شريكه في اللعب والوجود والقدر، ويتابع خوضه لعنة الهرب من القصف المدوّي ومشقة عيش ليال طويلة في العراء من دون ساعة نوم أو غذاء أو ملجأ، متعطّشاً لقطرات مياه صالحة لم تختلط بمياه الصرف الصحي. هنا، في غزة، «مقبرة آلاف الأطفال» وفق جيمس إيلدر، المتحدث باسم منظمة اليونيسيف، يبحث الأطفال عن زاوية حصينة علّهم يفرّغون فيها دموعاً تخنق حناجرهم وعلّهم يحتسبون الأحياء من أفراد عائلتهم في مدينة توشّحت بالسواد ولم تعرف ألوان قوس القزح.
أحلامٌ كثيرة دُفن أصحابها وفقدت معانيها، وألعاب خسرت من يحركها، بالكاد يمكننا تمييز دراجة حديدية متضرّرة إلى جانب أبنيةٍ سوّيت بالأرض.
من بين الشهداء أطفالٌ حلموا بأن يكونوا ذا شأنٍ ومستقبل وقدرات متميّزة يغيرون فيها مصيرهم ويغلّبون الخير على الشر لكنّهم قضوا بأسلحة محرمة دولياً حرقت أجسادهم الطرية تحت أطنان من الباطون. آخرون نجوا بأعجوبة، وجرحى أجروا عمليات جراحية من دون تخدير، وهناك من بُترت أعضاؤهم بينهم صبيّ «بأوّل طلعته» يبكي يده، يتفقّد ظلّها وثقلها و«يشتاق لأن يمسكها». ضريبة النجاة غالية في غزة. ثمنها بكاء هستيري، وصدمات، ودفن الأقارب، والإخوة، و أمّ وأب، وأطراف من أجسادنا. حتى القلب يُدفن أثناء القصف والتشرّد ومن شدة الألم، ليمهّد الدرب لقدرات خارقة وروح المقاومة والقتال وحب الوطن والانتماء.

القصص الخرافية لا ترقى لأرض الواقع
لم تخبرنا «ديزني» في سلسلة أفلام Toy Story عن مصير الألعاب التي يموت أصحابها من الأطفال. بل أخبرتنا بأنّ الأطفال يكبرون. والألعاب يتعدّد مستخدموها، واكتفت بدعم «إسرائيل» وأطفالها حصراً. كذلك، لم يهبّ من الغرب بطل، على هيئة خيالهم وأفلامهم الأوروبية والأميركية المصوّرة، ليهتف بنصرة المظلومين ويحتضن الضعفاء، مستخدماً أدواته المبتكرة وطارحاً شعاراته الرنانة عن الحرية والنزاهة، تؤطرها مصطلحات مرتبة وكاذبة من بلده الخبيث، بينما أطفال غزة يزيحون عن رؤوسهم الركام ليعينوا مسعفيهم على حمل أجسادهم المكسورة، من دون إخراج ومونتاج وأثناء النقل المباشر للغارات الغادرة.
لم تخبرنا «ديزني» في سلسلة Toy Story عن مصير الألعاب التي يموت أصحابها من الأطفال


قصص أطفال غزة، الذي شاء القدر أن يولدوا في أقسى أصقاع الأرض، لم تكتمل. منهم من حلم بأن يكون لاعب كرة قدم، ومنهم من حلم بأن يصبح من الشعراء، والرسامين، والصحافيين، ومن بين الركام تخرج يد طفلةٍ تطبق يدها على قطعة خبز لم يتسنَّ لها أكلها، فكانت بطعم الدمار، ومن تحت الردم، خرجت قصة يوسف الذي غطاه الرماد وتمسّكت والدته بالإيمان والحمد لأنه «لم يصبح أشلاء». ماذا يعني أن يكون أملنا بأن نجد موتانا لم يتشوهوا أو لم يصيروا أشلاء؟
أطفال غزة لم يملكوا ترف الوقت ليستكملوا حلمهم ولا حتى ليهربوا، قاسوا الألم ومعنى الفقد في عمر الورد، ها هي أحلامهم تُقتل وتُنقل لنا الآن عبر شاشة التلفزيون عينها التي عرضت قصص الأبطال الخارقين آخرهم بطلة صهيونية تغنّت بها شركات الإنتاج ببداحة كونها جندية إسرائيلية سابقة ليعرّيها أطفالٌ غزيّون يعبقون برائحة الزيتون، رأوا من العالم شرّاً مطلقاً، وواجهوا عدوّاً فتاكاً أكثر شرّاً ودموية من كل الشياطين التي شاهدوها عبر التلفزيون.
أبطال يُقاومون مشروع الإبادة بأجسادهم وعقيدتهم ومعدن من ذهب. كيف نخبر أطفال غزة أنهم لا يحتاجون إلى قدوة خرافية يتمثلون بها؟ كيف نخبر أطفال غزة أنهم أبطال العالم الخارقون وأننا بهم نقتدي؟