تحت عنوان «غزة: سردية الوعي المقاوم»، أقامت «أكاديمية دار الثقافة» في بيروت جلسةً تفاعليّة للبحث والتفكير والعصف الذهني، لاستخراج خلاصات عملية، من أجل حماية السردية الفلسطينية في معركتها الراهنة، لأنها حرب ثقافة الحقيقة في مواجهة ثقافة الهيمنة الإمبريالية والتضليل والتزييف الصهيونيَّين. بدأت الندوة في قاعة مكتبة «الأكاديمية» في مخيم مار الياس في بيروت، أدارها الكاتب حمزة البشتاوي، وتخللتها مداخلات أساسية لكل من: الكاتب مروان عبد العال، الصحافي بيار أبي صعب، الشاعر نعيم تلحوق والباحث عبد الملك سكرية، وأضاف الحضور مداخلات واقتراحات ونقاشات عن هذه القضية.
لا يمكن الوقوف بوجه الهيمنة الإمبريالية الغربية من دون فهم لغتها وآليات عملها كما أشار الكاتب والمناضل مروان عبد العال، الذي أكد أنّ هذا يتطلب النهوض بثقافة الهوية والانتماء والوعي بالقضية الفلسطينية، لأنّ إحدى ركائز الاستعمار هي الإبادة الثقافية التي تحاول محو الهوية والسيطرة على الآخر باستعباده واحتلال العقل واستعماره، ما قادَ إلى مشروع التطبيع الثقافي، ثم التطبيع السياسي. حاولت الهيمنة الإمبريالية السيطرة على كل المنطقة العربية عبر مستعمرتها «إسرائيل»، لذلك يتطلب الأمر العمل على مقاومة كيّ الوعي بالوعي المقاوم وتشويه الوعي بالحقيقة، وقوة الشر بقوة الحق. علّمتنا سردية الوعي المقاوم الذي تكتبه غزة اليوم ضرورة خوض معركة الثقافة الوطنية، وكذلك يلزم الأمر عصفاً ذهنياً لما يمكن أن نفعله في مواجهة «الكذبة» التي هي عدونا. وتابع: «مع العدوان على غزة، تدور حرب السرديات، حرب شرسة بين روايتين، مزيفة وصحيحة وكاذبة وحقيقية وحرب القوة الناعمة لاحتلال العقول، تمثل أحد أهم الأبعاد الإستراتيجية والرمزية في حروب اليوم». ولأن الغرب كان منحازاً ومتواطئاً وشريكاً، كما يرى الصحافي بيار أبي صعب، ربما أصبح من الصعب جداً أن نعتبر أنّ هناك غرباً إنسانويّاً كما اعتقدنا، رغم بعض الاستثناءات القليلة جداً هنا وهناك، فقد قدم لنا هذا الغرب نموذجاً سرعان ما اكتشفنا أنه قد خيب ظنّنا كثيراً، خصوصاً أنّ كثيرين درسوا في جامعات هذا الغرب واستمدوا ثقافتهم الإنسانية والحضارية واليسارية منه، لنفاجأ أنه الآن يتحدث بلغة الاستعمار والاحتلال والاستبداد. لقد حاول هذا الغرب أن يستخدم العقول في خدمة أجندته ولغته، لأنّ بعض هؤلاء المثقفين انتصر لثقافة الأبيض ليشعر بأحقيّته في الانتماء لهذه الثقافة والتباهي بها. وأضاف أبي صعب أيضاً أن «هناك نخباً كثيرة في بلادنا تتماهى مع الغرب، وهناك نوع من العلمانية السطحية، علمانية الأبيض الذي يعلّم الحضارة لـلـ«همجي» المسلم. ولذلك نحن معنيون بكشف هذه الأقنعة عبر استخدام لغتنا وكلماتنا وبوعينا بأن سردية الحق ستنتصر، وخصوصاً أن الإعلام الغربي قد بدأ ينكشف أمام العالم، وبدأ العالم يدرك أنّ سردية الاحتلال مزيّفة في رؤيته للمجازر التي ترتكب بحق الأطفال».
ولأن الحرب الثقافية مفتوحة على كل الجبهات، لا بدّ من أن نتذكّر أن هناك تأكيداً للصهيونية على يهودية الدولة، ولأنّ روايتها المزيفة كانت قائمة على ادعاءات دينية كما يشرح الشاعر نعيم تلحوق، مضيفاً أنّ هناك تركيزاً على أنّ «المقاومة دينية، مع أنها مقاومة فلسطينية نابعة من قلب الشعب الفلسطيني، لذلك هي مقاومة فلسطينية، ويجب التركيز على أنها كذلك، مع احترام كل الفصائل والأيديولوجيات التي تحفّز على المقاومة وتستلهم منها الإيمان بالحق والقضية، ويستلزم ذلك الانتباه للغتنا ومصطلحاتنا وكلماتنا لأنها تحارب اليوم معنا».
الجبهة الثقافية لا تقل أهمية عن الجبهة السياسية حتى في نظر العدو، كما أكد عبد الملك سكرية الذي شرح أنّ هذا العدو عمل على مشروعه عبر التعبئة الغربية الثقافية لتصوير اليهود على أنهم ضحايا، ولذلك إن المقاطعة الثقافية للمؤسسات التي تدعم المشروع الصهيوني تعدّ من أهم هذه الخطوات التي تجعلنا مسؤولين عن موقفنا من الاحتلال، لأنه إذا استطاع العدو احتلال الوعي والعقل، فقد انتهت المعركة. المعركة اليوم هي معركة إرادات، وثقافة المقاومة هي التي تمكّن أي مقاوم من القتال والاستشهاد. ولذلك، إن جهدنا هو أن نبقى مقاتلين على جبهة الثقافة، واعين لقضيتنا، فمن يقول: «سأبقى هنا ولن أرحل» إنما هو يمثّل الوعي المقاوم الذي لن يُهزم. لذلك العدو لا يستطيع أن يهزم وعينا، لو استشهدنا أو استطاع أن يقتل أجسادنا. فالمسؤولية تُلقى اليوم على التعليم والثقافة، لأنها هي الأساس في مواجهة عدو يحاول إبادتك ثقافياً، وإذا استطاع احتلال عقلك فقد حسمت المعركة.
تشكّل الإبادة الثقافية إحدى ركائز الاستعمار الذي يريد محو الهوية والسيطرة على الآخر


وكانت هناك مشاركات أيضاً من الجمهور، إذ أشار الصحافي أيهم السهلي إلى أنّه عبر المتابعات اليومية للمحتوى الثقافي الذي يقدم عبر وسائل الإعلام، يلاحظ أنّ هناك مَن يعبّئ جمهوراً هو أصلاً معبّأ، بينما تغيب الترجمة الإنكليزية وتلك التي تخاطب الجمهور الغربي. «كما تحضر السرديات الملفقة التي تضرّ بقضيتنا عبر منابر عربية تشوّه الحقيقة».
وفي السوشال ميديا، يبدو أنّ ما يقدّم من محتوى فني وثقافي قد صنعه أفراد غربيّون، كما قالت الإعلامية سما أبو شرار، وهم مناصرون للقضية الفلسطينية، لذلك «يجدر بنا نحن العاملين في المخيمات وكأكاديمية ثقافية أن نفكر كيف سنقدم محتوى ثقافياً يدعم سرديتنا الحقيقية ويمكّن الشباب المثقفين من امتلاك سلاح المعرفة بقضيتهم. علينا إذاً التفكير عميقاً في مشروع ثقافي عربي من نخبة ضليعة في العمل الثقافي للوقوف في وجه المشروع الصهيوني الاستعماري، وفي استخدام كل الوسائل النضالية من تراث وتاريخ وفن وموسيقى لكي نكون في هذه المعركة جنوداً».
وكانت خلاصة النقاش أنّ المشروع الثقافي يبدأ من الإيمان بأننا نستطيع أن نفعل الكثير في ظل ما يحدث، بعيداً عن الكلام والبيانات والتصريحات. وما يحدث في غزة رغم قساوته وألمه، إلا أنّه كشف كل شيء كان مستوراً في اللاوعي من قبل، خصوصاً في ما يخص لغة الغرب وثقافته الاستعمارية الاستعلائية. فلقد كشفت غزة القناع الثقافي الذي يلبسه الغرب حين كان يخاطبنا بلغة الحقوق والمعرفة والحضارة والتعاطف والديموقراطية.
واختتمت الجلسة باقتراح استكمال هذه النقاشات في حلقات أخرى، يتم فيها الحديث أكثر عن اقتراحات للتعاون والعمل على الأرض، ووثقت المداخلات لتتم الإفادة منها لاحقاً. ولأن فلسطين هي قضية وفكرة، فكما قال غسان «تسقط الأجساد لا الفكرة»، ستظلّ الفكرة حاضرة وحيّة ويقظة في قلوبنا وعقولنا...