قبل سنوات قلت لشاب من داخل فلسطين أننا لم نرَ توحّش الاستعمار على حقيقته بعد، كما رأته الشعوب التي تعرضت للإبادة المطلقة، وقتها غضب مني واعتبر أنني أقلّل من جرائم العدو الصهيوني. ولكنني كنت أحاول التحذير من أننا لم نر الأسوأ بعد، وها نحن اليوم نشهده في غزة. الفرق الأساسي هنا هو وجود مقاومة جوّفت وكسرت قدرات آلة الاستعمار العسكرية على السيطرة.
ما نشهده اليوم هو ما يسميه الباحث عبد الوهاب المسيري باللحظة النموذجية، ويعني بها لحظة سقوط القناع، أي إن أسوأ ما ينتج من ظاهرة اجتماعية أيديولوجية ما، في لحظة استثنائية ليس خروجاً عن الطور بل تعبيراً لجوهر هذه الظاهرة التي تحاول تغطية مآربها الحقيقية بغلاف من «الإنسانية» والنفع العام والاعتذارات. توحّش وهمجية العدو في قطاع غزة لا يعبر عن حقيقة الصهيونية لوحدها بل عن حقيقة «الإنسانية» الأورومركزية في حديقتها المحظية والمسوّرة.
الرفاه والإبادة والـ«فوميتوريوم»
«حيوانات بشرية» و«أبناء النور وأبناء الظلام» وغيرها من مبررات الإبادة العنصرية الصهيونية لا تبتعد كثيراً عن تعبير جوزيب بوريل «الحديقة الأوروبية والأدغال». بوريل بدوره ليس خارجاً عن النص ولم يأت بجديد. من قبله كتب روبرت كيغان كتاباً بعنوان «الغابة تنمو من جديد»، وكيغان هو عرّاب مشروع القرن الأميركي الجديد الذي نظر إلى ضرورة استمرار الحروب الأميركية في لحظة الأحادية القطبية. رأي الرجل أنّ حروب أميركا لا تحتاج إلى عدو أو تهديد حقيقي لتستمر. هنا علينا النظر إلى ظاهرة الاستعمار الأوربي الممتد، منذ خمسة قرون كظاهرة واحدة بأطوار مختلفة.
لأسباب مناخية وجغرافية وديموغرافية، تركّز مصنع العالم في شرق آسيا، ونتج من فائض الصناعة خطوط تجارة عبر غرب آسيا إلى أوروبا. وهكذا كان الغرب على مدى التاريخ طرفاً في خريطة الإنتاج العالمي. انقلب هذا الواقع في مرحلتين تاريخيتين، الإمبراطورية الرومانية وعصر الاكتشافات الجغرافية. تميز العصران بالسيطرة العسكرية على البحار والقرصنة المدعومة من رؤوس الدولة والاقتصاد المالي والاستهلاكية المفرطة. هنا لنعود إلى الباحث المسيري ليشرح لنا المعنى الثقافي والاجتماعي لهذه الظاهرة، وهي التعامل مع كل عملية حيوية بشراهة لا إنسانية لتفقد العملية معناها الحيوي والاجتماعي، فيذكر لنا الـ«فوميتوريوم» وكما تدل الكلمة هو مكان للتقيّؤ، صمّمه الرومان ليتسنى لهم مواصلة الإفراط بالأكل بشكل لا نهائي. لو نظرت حولك ستجد الـ«فوميتوريوم» يملأ الحضارة الغربية من العمارة إلى الأزياء والموسيقى والطعام. وستجد أنّ الإفراط بالبذخ وإظهار الثراء لا علاقة له بأي وظيفة اجتماعية أو جمالية، هو مجرد شره مجرد من الإنسانية.
التوحّش في الاستهلاك هذا يترافق بوحشية الإبادات المطلوبة لمراكمة وتوفير سبل الرفاه، ويترافق أيضاً مع إدراك عميق بأن نبذ العنف والإبادة سيُعيد المياه إلى مجاريها، وأنّ الطبيعة ستعيد إلى الوجود دورته الدائرة، إذ يبقى الرجل الأبيض أقلية على طرف سلسلة الإنتاج العالمي. لهذا فهو في حرب مع الطبيعة التي تُعدّ شعوبنا جزءاً منها، الإبادة في نهجها الحديث، أقل همجية لناحية الشكل: كبسة تلقي قنبلة تقتل بالجملة ولا تلوث أيدي القتلة، هكذا بررت سيدة فرنسية في مداخلة لها على إحدى القنوات، باعتبار أن قتل الطفل الفلسطيني هو ضرر «جانبي» للقصف الجوي المبرّر، ولكن خطف المستعمرين وقتلهم (وهذه رواية صهيونية كذبها الصهاينة أنفسهم) عمل وحشي يخدش الإنسانية.
منذ بداية عصر الاستعمار، والرجل الأبيض يخشى من عودة نمو الغابة مجدداً. هذا هو المبرر الحقيقي لكل الإبادات ضد الشعوب الأصلية، وإن كانت السرديات تختلف باختلاف العصور، من ضرورة قتل السكان الأصليين لأنهم بلا روح، إلى ضرورة التبشير، فحملات التطهير على يد الـ«بيوريتانيّين» تحت ادّعاء أوامر الله لشعبه المختار الجديد في وجه الفلسطينيين الجدد. لا بل هدد أنبياء أميركا رعيتهم أن التقاعس في القضاء على الرضيع قبل المقاتل سيجلب غضب الرب على الإسرائيليّين الجدد.
ثم جاءت المبررات الثقافوية للتفوق كنظرية ماكس فيبر، وهذه الأخيرة أنتجت سردية التقدم والتطور كما عبء الرجل الأبيض ليطلب بكل وقاحة من الضحايا أن يشكروا قاتليهم على المجازر التي كانت ضرورية لنشر التقدم الغربي في بلادهم. في الهند قتلت بريطانيا أكثر من 120 مليوناً عبر المجاعات المسبقة الإصرار والتصميم لوحدها. ومع ذلك لليوم يرفضون الاعتذار عن جرائمهم تحت حجة أن بريطانيا تستحق الشكر لإدخالها سكك الحديد لشبه القارة، علماً أن الهنود دفعوا ثمنها المبالغ فيه أضعافاً وأنها صُمّمت لنهب البلاد لا لتنميتها. فرنسا بدورها لا تزال ترفض الاعتراف والاعتذار عن جرائمها الاستعمارية أكثر تطرفاً وانحطاطاً، فقد كانت فرنسا أول من اخترع غرف الغاز، إذ حُشر الجزائريون في الكهوف لقتلهم جماعياً، وقتها قام دو توكفيل بإلقاء محاضرة في البرلمان الفرنسي لإدانة هذه الممارسة لأنها تؤثر على معنويات الجنود الفرنسيين وروحهم القتالية، توكفيل رائد علم الاجتماع كان معجباً بالتجربة الأميركية في الاستعمار الإحلالي، وكان قد كتب كتاباً للدعوة إلى نقل هذا النموذج الناجح إلى الجزائر.
التقط الصحافي جون بيلجر ما هو أفظع في وثائقي الحرب القادمة على الصين، بعد الحرب العالمية الثانية ألقت أميركا أكثر من 60 قنبلة ذرية وهيدروجينية على جزر بيكيني الوادعة الشبيهة بالفردوس، وتم تهجير السكان وتجويعهم وتشغيلهم خدماً لجنود القواعد الأميركية، لكن لم يُتركوا بلا أي خدمات صحية إذ قدم لهم مستوصف مجاني لقياس الإشعاع. وجد بيلجر مادة دعائية قديمة تظهر بعض سكان الجزيرة وهم يسافرون إلى أميركا لإجراء فحوصات وتجارب عليهم لمعرفة أثر القنابل على جسم الإنسان. على أن الأكثر وقاحة، هو سردية الخير الذي تقدمه أميركا لهؤلاء البائسين بإلباسهم رداء الرجل الأبيض المتحضر.
أما داروين فجاء وأسقط الرأسمالية المتوحشة لتفسير التطور الطبيعي، ثم أُسقطت نظريته على المجتمع لتظهر حركات الإبادة العرقية بتفسير «علمي» ومنها ظهرت حركات الإبادة الحديثة مثل المالتوسية واليوجينيا والداروينية الاجتماعية والنازية. بالمناسبة اليوجينيا، أو نظرية تحسين النسل، لم تندثر ولكن غيرت خطابها ولا تزال عقليتها تسيطر على الكثير من أثرياء الغرب. هناك ورقة كيسنجر الشهيرة في السبعينيات للتحكم في السكان، ووالد بيل غيتس من اليوجينيين والابن يريد المضي في نفس السياسات ولكن باستخدام تعابير تظهر حسن النية والعطف على فقراء العالم.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والغرب بقيادة أميركا يضع سرديات جديدة بمغزى واحد، الإبادة بحجة إنقاذ الشعوب من شر نفسها، تارة تحت حجة محاربة الشيوعية أو الإرهاب أو بناء الدولة نشر الديموقراطية أو آخر صرعات التقدم الغربية المسماة بثقافة الـ Woke! وكلها على نمط بناء الدولة الذي وضعه جورج بوش الابن عنواناً لاجتياح العراق، بينما صرّح في لحظته النموذجية أنه يشن حرباً صليبية لإعادة العراق للعصر الحجري.
الـ«فوميتوريوم» هو مكان للتقيّؤ صمّمه الرومان ليتسنى لهم مواصلة الإفراط بالأكل بشكل لا نهائي


هنا علينا مراجعة الفلسفة الإنسانية التي أسس لها نيتشه والتي يتشدق بها الغرب علينا ليل نهار، ولكن من يقرأ نيتشه يفهم أن ما يعنيه بالإنسانية، ليس التعاطف والمساواة والرأفة أو الأخوة، بل على العكس تماماً. تمرد نيتشه على الدين (المسيحية بشكل خاص) كان ضد القيود الأخلاقية التي يفرضها الإنجيل لترويض أخلاق القوة وما تحتاج إليه الرأسمالية لتنجح. نيتشه الإنساني، لم يكن ضد العنصرية، ولا الإبادة. فهو يرى أن لا مكان للضعفاء في العالم، لا بل أن مساعدتهم للنجاة خطيئة، والشفقة والإحسان خطيئة، وأن تقدم الإنسانية مرهون بالتخلص من أعباء مراعاة الضعفاء وانتصار الأقوياء بأخلاق «الرومان» كما يسميها، أي أخلاق القوة والغزو والنهب. نيتشه كان مع العبودية وكان من أعداء المرأة فهو من قال لا تحدث المرأة إلا والسوط بيدك، هذا هو نبي الإنسانية الأوروبية الأول والذي يعود إليه كل فلاسفتها.
الوقوع في حب القاتل
منذ قرون طوّر المستعمرون آليات بروباغاندا لاستمالة الشعوب التي يغزونها، فالإسكندر تبنى أديان الخصم ليكسب ود شعبه، وبذلك لحقه نابليون عندما احتل مصر وادعى تبنيه الإسلام. وأتقنت التجربة الأنكلوسكسونية ما يسمى بـالإبادة الثقافية، أو ما أصبح يُعرف أميركياً بالحفاظ على الرجل وقتل الهندي (الحفاظ على الجسد وقتل روح وثقافة الإنسان الأصلي). هذه السياسة أنتجت أول تجربة لنموذج السلطة الفلسطينية. أبناء البلاد الأصليين الذي يعملون حرساً للعدو ضد أبناء جلدتهم، لا بل ينظرون إلى العدو كمنقذ لأمتهم من التخلف والرجعية ويشعرون بالامتنان تجاهه وتجاه مجازره. هؤلاء هم المثال الأفضل لما يسمى بعملية التماهي (assimilation) أو كما يسميهم مالكوم اكس بعبيد المنزل الذين يخافون على السيد وأملاكه أكثر منه. اليوم لدينا نموذج أكثر فعالية من هؤلاء في المجال الثقافي وهم الناشطون وموظفو المنظمات غير الحكومية التي يموّلها الغرب الاستعماري.
كل هذه التجارب تعتمد تقنيتين ثقافيتين لقلب «كسب» القلوب والعقول. أولاها السلب الثقافي (Cultural appropriation)، وتعني تجريد الثقافة المستهدفة من كل نقاط القوة وكل ما يستحق التقدير، وفي الحال المثالي يتم نسبة كل ما له قيمة في الثقافة المحلية بشكل ما إلى الرجل الأبيض. بالمقابل لا يكتفي العدو بشيطنة كل ما يمكن في الثقافة المحلية بل يقوم المستعمر بإسقاط أبشع جرائمه علينا (Projection)، وهذا ما رأيناه في الأيام الأولى من طوفان الأقصى، قيل إن النساء اغتُصبن من قبل المقاومة، وقيل إن المقاومة قطعت رؤوس الأطفال، وقيل إن المقاومة قتلت المدنيين عن جنب وطرف، وأحرقت الأطفال بالأفران… كل هذا وأكثر هو ما قام به العدو في هذه الحرب وقبلها منذ إنشائه. ولكن بفعل الإبادة الثقافية وآلياتها هناك من لا يزال يعول على «إنسانية» الغرب لإنقاذنا من أنفسنا، حتى قبل إنقاذنا من العدو.