ينتفض ناطق مجلس الأمن القومي «جون كيربي» كلّما سُئِل عن آلاف الشهداء المدنيين الفلسطينيين الذين يُقتلون بالقنابل الأميركية الصنع. يرفض الاعتراف بأرقام وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، ويحاول تجميل الوجه المتوحّش للنظام الذي ينطق باسمه، معبّراً عن «أسفه» لسقوط ضحايا، ويكرّر بوقاحته المعهودة: «هذا ما يحدث عادة في الحروب». لكنه كان يبكي بعد ساعات من عملية «طوفان الأقصى» ويتأوّه على صور جثث أطفال إسرائيليين تبيّن أنّها مُنتَجة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وقبلها أيضاً ذرف الدموع على أطفال أوكرانيا. إزاء تكرّر أفلام النفاق الرسمي الأميركي الوقحة في أكثر من صراع وفي غير منطقة من العالم، لا يمكن تمرير هذه الوقاحات المعاد تكرارها بطريقة مقزّزة، من دون وقفة لطرح السؤال التالي: إلى ماذا يستندون في ما يمارسونه عندما يتعلّق الأمر بادّعاء تبنّيهم كل تلك «القيم» والمفاهيم الحقوقية والديموقراطية، فيما يمارسون العكس، ويعودون لفعل الأمر مجدداً ومجدداً؟ الجواب بكل بساطة: على جهلنا بتاريخهم الحقيقي.
لقد كذبوا عندما دوّنوا في كتب تاريخهم الذي درّسوه لأطفالهم وأطفال العالم بأنّ «الثورة الأميركية» كانت أول ثورة من أجل الحرّية والاستقلال والديموقراطية في التاريخ الحديث. لقد أخفوا حقيقة أنّ بورجوازية رأسمالية صاعدة من المجتمعات المستوطِنة، رأت أنّها أولى من التاج البريطاني بأن تحكم، فموّلت ميليشيات لممارسة الإغارات المسلّحة لطرد البريطانيين، وقد انتصرت هذه البرجوازية عام 1776 ونصّبت من يسمّونهم «الآباء المؤسّسين»، من مُلّاك العبيد والتجّار، على رأس الحكم الذي أوجد الكونغرس وصاغ الدستور، الذي وللمفارقة، كاتب «وثيقة الحقوق» الملحَقة به، توماس جيفرسون، كان يملك 600 عبد عندما كان يكتب هذه الوثيقة، فيما كان يغتصب مملوكته الأفريقية «سالي هيمنغز»، البالغة من العمر 14 عاماً، وينجب منها أطفالاً ويرفض الاعتراف بنسبهم إليه. في العقود ما بين الاستقلال والحرب الأهلية، اكتشفت الرأسمالية الصناعية أنّ مصالحها بزيادة الإنتاج وتحقيق الأرباح والفوائض قضت بإشراك المرأة في سوق العمل وإرسالها إلى المصانع مع زوجها، مع تطمين العائلات إلى أنّ الأطفال ستتم العناية بهم وبتعليمهم، في ما بات يُعرَف بالشكل العصري للمدرسة، وفقاً للنموذج الرأسمالي. هكذا أقرّ نظام الهيمنة الرأسمالي المفهوم الحداثوي لـ «حقوق المرأة»، على قيام مصالحه، وهو ما أوصل عام 1920 إلى إقرار التعديل التاسع عشر في الدستور الأميركي، الذي نصّ على حق المرأة بالتصويت في الانتخابات.
لقد كذبوا عندما دوّنوا في كتب تاريخهم أنّ الحرب الأهلية الأميركية عام 1861 حصلت لأنّ الجنوب رفض مطالب الشمال بتحرير العبيد. صحيح أن الولايات الشمالية كانت قد بدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر تعلن تحرير العبيد في تشريعاتها المحلية، ولكن قلّة من المصادر التاريخية تطرّقت إلى حقيقة أنّ الرأسمالية الصناعية الأميركية في الشمال أرادت تحرير العبيد لأسباب مصلحية بحتة (حاول المؤرّخ الترينيدادي والسياسي الشهير إريك ويليامز في كتابه «الرأسمالية والعبودية» الصادر عام 1944 أن يضيء على هذا الاستغلال، ولكنهم طبعاً رفضوا خلاصاته وظلّوا لعقود لاحقة يهاجمون كتابه حتى اليوم في أعمالهم الأكاديمية). لقد نظروا إلى ما اعتبروه فرصاً لزيادة الإنتاج وتحقيق فوائض في الأرباح إذا ما نجحوا بتحويل حوالى 5 ملايين عبد أفريقي يعملون في حقول أسيادهم البيض في الولايات الجنوبية، إلى عمّال بأجرة بعد تحريرهم. بعد انتصار الشماليين عام 1865، تحوّلت هذه الكتلة المحرَّرة لتوّها إلى قوة عمالية بأجور، مستهلكة لسلع الشمال، ونازحة إليه للعمل في مصانعه، من باب العرفان بجميل الشماليين «الحقوقيين» الذين انتصروا لحريّة المستعبَدين، ولكن عندما طالب هؤلاء المحرَّرون لتوّهم محرِّريهم بمساواتهم مع البيض في الحقوق المدنية، كان الرفض قاطعاً وحاسماً، في تجلٍّ لنوايا المنظومة الرأسمالية المنطلقة من مصالحها، والمدّعية الطهرانية الحقوقية.
هؤلاء رأسماليون جشعون لا تحرّكهم إلا مصالحهم


لقد كذبوا بعد قرن من الزمن أيضاً، في عقد الستينيات من القرن العشرين، عندما أعلنوا بأنّ الحزب الديموقراطي انتصر لمطالب «حركة الحقوق المدنية»، تطبيقاً للدستور الأميركي الذي نصّ على المساواة بين كل الأعراق في الحقوق المدنية، مع إقراره في الكونغرس ذي الغالبية الديموقراطية، والبيت الأبيض الذي كانوا يحكمونه أيضاً، 3 قوانين ألغت التمييز ضد الأفارقة والأقليات الملوّنة، إذ أصبح في إمكانهم استعمال الأماكن العامة والمطاعم ووسائل النقل، والأهم والأخطر، الحصول على القروض السكنية. آنذاك كانت الرأسمالية المالية في وول ستريت، المستفيدة من برامج «الصفقة الجديدة» ذات المضمون الريعي التي أقرّها الرئيس الديموقراطي روزفلت في مطلع الثلاثينيات، تطمح لزيادة أرباحها وتوسيع سوقها الاستهلاكي، الذي في هذه الحالة، الطلب على القروض. نعم، لقد ضغطت وول ستريت على الحزب الديموقراطي لتمرير قوانين الحقوق المدنية، بخاصة قانون عام 1968، الذي أعطى ملايين الملوّنين والأفارقة الحق بسحب قروض سكنية، فكبرت الأرباح وتعاظمت وهيمنت سلطة الرأسماليين الماليين في وول ستريت ضمن مكوّنات نظام الهيمنة الرأسمالي الأميركي.
لقد كذبوا ولا يزالون اليوم كذلك، في مناصرتهم «الحقوقية» لقضايا النوع الاجتماعي، وكل ما يتعلّق بالهويات المايكروسكوبية، التي عملوا على إيجادها لخدمة هدف التسليع، منذ التسعينيات وحتى اليوم، مع ما تُسمّى «الصحوة الليبرالية» أو الـWokeness . هؤلاء لم يكونوا في أي يوم من الأيام إلا ما هي عليه حقيقتهم: رأسماليون جشعون لا تحرّكهم إلا مصالحهم. يكذبون وينافقون، كما دأبوا منذ وُجِدوا، على حساب أرض السكّان الأصليين (المسمّون ظلماً بالهنود الحمر) ودمائهم وجماجمهم. كيف لنظام الهيمنة الرأسمالي الأميركي أن يترك حارس مصالحه في منطقتنا ينهار؟ وكيف لا يحاول إيقافه على رجليه بعد «طوفان الأقصى»؟ وكيف لا يمكّنه من ارتكاب إبادة جماعية في غزة وهو القائم أصلاً على الإبادة الجماعية؟ إذا أردنا اليوم أن نأخذ فكرة عن المصالح الأميركية التي تقف خلف استمرار العدوان على الفلسطينيين في قطاع غزة، ينبغي قبل أي شيء أن نتسلّح بمعرفتنا بتاريخهم غير المزيَّف، ونبحث عن تعليقات أرباب وول ستريت وشركات المجمع الصناعي العسكري الأميركي. اليوم، مسؤولو أسهم وحاملوها في شركات التمويل في وول ستريت، كمورغان ستانلي وسيتي غروب وغيرهما، وفي المجمع الصناعي العسكري كشركات ريثيون وجينرال داينامكس ولوكهيد مارتن، يعبّرون عن فرحهم بزيادة الطلب على التصنيع العسكري، مع طلب بايدن حزمة مساعدات من الكونغرس بقيمة 105 مليارات دولار، من المقرَّر أن يذهب 14.3 مليار دولار منها للكيان الصهيوني.