شيئان لن تستعيدهما إسرائيل: «هيبتها» التي سبقت عملية «طوفان الأقصى»، وقيادة تحمي بيتها الداخلي - وهو الرهان الأخير الذي سقط منذ فرز البيت الأبيض غرفة قيادة تجمعها غريزة الدم، وتفرّقها خريطة سياسية وأمنية متعارضة؛ ليس بسبب وجود اختلافات واضحة في «كابينيت» الحرب فحسب، ولكن نظراً إلى أن تهديداً إستراتيجياً بحجم الوجود لم يُنتج سوى تأجيج شهية القتل، بدلاً من إنتاج صيغة مواجهة يتوحّد خلفها الجميع تحت سقف «مصلحة الدولة العليا». فإذا كان القضاء على «حماس» هدفاً موحّداً للجميع، فما الذي يعيق عملية إخراج القرار؟ على أن جدران غرفة القيادة ذات العزل الأميركي، لم تَعُد قادرة على طمس الأصوات المتنافرة على طاولة صنْع القرار، ما انعكس تخبُّطاً وارتباكاً ظاهرَيْن في حلقة التنفيذ الفارغة من كل شيء، إلّا من الدماء.
الثابت هنا، أن الإخفاق القاتل حصل أثناء «حراسة» بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يوآف غالانت، ليغلب التعارض دائرةَ الالتقاء مع انضمام رجل المعارضة بيني غانتس، ورئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، إلى حكومة الحرب. وربّما يكون رأس نتنياهو أول مَا أطاحه «الطوفان»، لتسقط معه إستراتيجيته الابتدائية، التي أقامها على أنقاض "عقيدة بن غوريون" الأمنية، بشطب «تنفيذ ضربة استباقية» وتثبيت نظريته حول «اللاحسم» في المعارك، بعدما خرج من أغلب حروبه بلا نتائج واضحة، وذهب نحو النقيض: «حسم المعركة والقضاء على حماس»، بما أن مساحة «الخيار» لديه معدومة، وفرصة إنقاذ ما يمكن إنقاذه هي الأخيرة المتاحة لديه. ثم كان لا بدّ من نزول «الملك بيبي» عن عرشه قليلاً - فضّلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية الإشارة إلى «تخلّيه (نتنياهو) عن ربطة عنقه» - يستبطن تعمّده اتّباع نهج وقائي تتطلّبه المرحلة. والملك ذو النزعة القيادية الحادّة والرأس المحموم، المحاط بالرجال المطيعين لا الخبراء الناقدين، ظهر بسلوك أكثر اتّزاناً، يتنقّل بين الخبراء، وقادة الحرب السابقين، للأخذ بالاستشارات ومناقشة التوصيات، فطرق باب جنرال الاحتياط السابق إسحق بريك، ومنه انتقل إلى رئيس الأركان السابق غابي آشكنازي، في مشهد ما كان لينجلي لولا حجم التهديد، وتضخّم منسوب الحرص لدى نتنياهو لاستغلال كلّ أوراق القوّة داخلياً وخارجياً.
«الحسم» الذي جاء ليشذَّ عن قاعدة نتنياهو العسكرية، التقى مع الإجماع الشامل للقيادات بحسم واضح للمعركة، فكان الأمر واعداً حتى بدأت عملية إفراز إستراتيجية موحّدة، علماً أن رئيس الحكومة الذي يناور خلف السواتر الأميركية، قام باستبعاد ضربة استباقية على الجبهة الشمالية، تماماً كما تنصّ إستراتيجيته الأمنية، بينما كان رفض مقترحاً كهذا طرحته حكومته في بداية الحرب، بحسب ما كشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، ثم عاد ورفض مجدّداً مقترحاً مماثلاً تقدّم به غالانت لفتح النار على "حزب الله"، نزولاً عند طلب جو بايدن، وذلك منعاً للانزلاق إلى حرب شاملة، وبتأكيد الصحيفة نفسها.
إذاً، المسافة بين غالانت ونتنياهو تختلف باختلاف حسابات الرجلَين: الأول، صاحب العقيدة العسكرية الهجومية، والثاني، الذي ضبَطَ هامش التحرّك، لديه من الحسابات ما لا يخرجه عن طاعة واشنطن، ومن الحذر ما لا يجرّه إلى خطوة قاتلة، ما يجعله أقرب في توجّهاته إلى آيزنكوت، «القائد الحذر» الأكثر حزماً وانضباطاً، الذي يتقيّد بحدود القوة. وإذ لا يلغي سيناريو «إطلاق نيران تدميرية»، لكنه يدرس خياراته جيداً.
أما غانتس، فيميل إلى «الحسم عن بعد»، لا بالقوّة المباشرة، بل بالعمليات خلف الحدود، وتفعيل سياسة الاغتيال، كإقدامه على اغتيال القائد العسكري لـ«حماس»، الشهيد أحمد الجعبري. لذا، هو تجنّب السقف المرتفع في التعامل مع الجبهة الشمالية، واقتصر خطابه على مراعاة جنون المرحلة: «سيدفع حزب الله ثمن تدخّله»، ليتعارض مجدّداً مع موقف غالانت المتأرجح من الاحتواء في المرحلة الأولى من مواجهات الشمال تحت سقف قواعد الاشتباك، إلى القفز مباشرة للمطالبة بدخول حرب مع لبنان، في مرحلة الحرب الحالية المقيّدة بالجغرافيا والأهداف والوسائل.
لا يختلف المشهد كثيراً، في تعامل هؤلاء القادة مع ملف غزة، الصمغ اللازم لتوليف خطّة «الانتصار المحتّم» التي لا تغيب عن خطابات القادة، والتي تبدو أكثر ضبابية عند صياغتها، وتتمظهر في التموضعات المتعارضة لكلّ منهم. فإلى جانب الجيش، وقف غالانت داعماً شرساً بعد إعلانه مسؤوليته عن الإخفاق، ليلتقي موقفه مع رؤيته الأمنية، بإخراج الجيش من السجال السياسي. كما يُعدّ الرجل الأكثر قرباً إلى المؤسسة العسكرية في حكومة نتنياهو، وهو ما كاد يكلّفه حينها خسارة مقعده في الائتلاف، إلّا أنه عاد وانصاع إلى خطّة التعديلات القضائية التي يعارضها الجيش. ومن هنا، يصبح مفهوماً حجم اندفاع غالانت إلى البدء بالعملية البريّة لترميم هيبة الجيش، باعتباره الرجل العسكري الذي يؤمن بقدرات جيشه في انتزاع النصر، وهو موقف لا يمكن سلخه عن هواجسه الشخصية ونزعته الهجومية.
الأمر مختلف بالنسبة إلى نتنياهو، بما أن الضوء الأميركي الأخضر لا يزال حبيس الخوف من احتمال معالجة تهديد غزة بتهديدٍ أكبر بحجم محور المقاومة. لذا، رفض نتنياهو للمرّة الثانية، توقيت غالانت ببدء الاجتياح البرّي، ثم فاقم أزمة الثقة التي بناها مع الجيش، بتحميله مسؤولية إخفاق 7 أكتوبر. وفي مسارات الالتقاء، يبدو غانتس أكثر قرباً إلى غالانت في الظهور كرجل الدولة الذي يؤمن بالأولوية المفترضة للمؤسّسة العسكرية، فكان حريصاً على الحضور في الميدان مع القوات، على رغم تردّده في خوض عملية برية.
في الدائرة الأبعد، يقف آيزنكوت، على مسافة استشرافية لا تخلو من القوّة المقيّدة. فهو ليس من النوع الذي يعبث بالألغام، بل من الصنف اليقظ، إذ تنبّه في خطته، «جدعون»، إلى أنه «في الحرب المقبلة، ستسيطر المقاومة على بعض المستوطنات القريبة، في إنجاز استعراضي لحظي، لكننا سنُطهّرها سريعاً». في فهم آيزنكوت، يجب نقل المعركة سريعاً إلى ميدان الطرف الآخر، للانتقال من موقع الدفاع إلى الهجوم، وتسخير كل المعلومات البرية والجوية والبحرية عن خطط الخصم. لكنّ «هذه المرّة، وعلى الرغم من النوايا الحسنة، فإن لاعبَي التعزيز، بيني غانتس وغادي آيزنكوت، يتركان بصمة مقلّصة على النتيجة النهاية، إذ إن الاتفاق الذي وقّعاه مع نتنياهو، لا يمكّنهما من التقاء ضباط خارج المداولات»، وفق ما علّقت صحيفة «يديعوت أحرنوت».
إلى الآن، لا تزال حكومة الحرب تدور في حلقة «اللاقرار»، والذي يتقاطع مع مسار الهواجس الشخصية، مع استثناء يذهب إلى آيزنكوت، في وضعه المصلحة القومية العليا لإسرائيل فوق اعتباراته. وفي الصورة الأوسع، فإن حقيقة أن غانتس لم يكن الخيار الأول للمناصب العسكرية العليا خلق ضعفاً رافق مسيرته السياسية، إذ تمكّن نتنياهو مراراً من تفريغه من منصبه، أو ضمّه بشكل ما إلى حكومته، لتشكّل الحكومة الحالية بالنسبة إلى غانتس فرصة للظهور بمظهر المنقذ الذي ترفّع عن خلافاته السياسية مع نتنياهو من أجل «البلاد»، وإنْ كان لا بد من الإشارة هنا، إلى أن حدود اللعبة السياسية عند غانتس تقف عند التعارض مع «مصلحة الدولة». أما بالنسبة إلى غالانت، فهو أقرب إلى كونه «تابعاً» منه مبادِراً، خاصة بعد إعلان نتنياهو إقالته وقبوله بالمصالحة المؤقتة. لذا، تموضع حالياً، إلى جانب الجيش، في المعسكر المواجه لنتنياهو.
عملياً، لم يُبدّل نتنياهو جلده، فهو يجهّز نفسه للمعركة ما بعد الحرب، كي لا ينتهي به الأمر كما انتهى بإيهود أولمرت بعد إخفاقات حرب تموز: «الحيّ الميت الذي يتجوّل بيننا». قد يلجأ الرَّجل إلى تبنّي سيناريوات تخالف رؤيته، لكنّ المؤكد أنه خسر المعركة، وفشل في إدارة حرب لا خطّة واضحة تتجه إليها، ولا جبهة داخلية تستند إليها.