لم تنجح «الأمصال» الغربية، على شموليتها واتّساعها وعمقها، في التخفيف من حدة القلق الإسرائيلي الذي أشعله «العبور» الإبداعي يوم 7 تشرين الأول. الأمصال، وشملت هذه المرة، وبخلاف المألوف الغربي، المسارعة إلى إرسال جنود وضباط ومستشاري الجيش الأميركي مصحوبين ومسبوقين ومتبوعين بترسانة عسكرية ضخمة، تفوق قدرات المنطقة وسعتها، وشملت إلى السفن الحربية وحاملات الطائرات، الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي المتقدّم، إلى غيرها الكثير الكمّي والنوعي من أحدث الأسلحة وأكثرها تقدّماً... أمّا سياسياً فقد استنفر العالم كما لم يستنفر إلى جانب إسرائيل. فازدحمت تل أبيب بقادة الغرب وسياسيّيه الذين تباروا في إلقاء الخطب الداعمة لـ«حق إسرائيل (المفتوح زمانياً ومكانياً) في الدفاع عن نفسها» وغيرها من أشكال النفاق المعروف الذي هدف، أولاً وأخيراً، إلى تبرير ورعاية فصول الإبادة الوحشية الإسرائيلية الجارية ضد مدنيّي غزة وتشريعها. إطلاق اليد الإسرائيلية في القتل والتدمير لم يؤدّ، حتى اللحظة، وبالرغم من الفظاعات التي أسفرت عنها، إلى أي تعديل في ميزان قوى المنطقة الحاكم. فالأغلال السابقة على العبور، المفروضة على الاحتلال، بفعل المعادلات الميدانية الصلبة التي بنتها المقاومة ومحورها، باتت، وعلى ما صار واضحاً بعد عشرين يوماً من التدمير المنهجي، والقتل المفتوح، أصلب من أن تُكسر وأقوى من أن تضعف. استنجاد الوكيل الإسرائيلي بالأصيل الغربي، لتخليصه من ورطته التي بات واضحاً أن لا «حلول» إسرائيلية سهلة لها، دليل على ما آل إليه واقع وحال الكيان الاستعماري الإحلالي، والاحتمالات القاتمة التي تهدد مستقبله. بل إن هذه «الورطة» تنذر بالتعمّق أكثر فأكثر إن لم يجر البحث عن «مخارج» غير تقليدية تبدأ من الإقرار بأن ثمة الكثير من الحقائق لم يعد ممكناً تجاهلها، وإن ما كان، غربياً وإسرائيلياً، لم يعد ممكناً له أن يكون. فالمخارج التقليدية، القائمة على استمرار تجاهل الحقوق والإمعان في ممارسات وسياسات الحصار والضم والقضم والتطهير العرقي والإبادي... أو الرهان على إمكان شطب القضية من خلال الرهان على القوة العارية أو التطبيع المستحيل، لن تجدي نفعاً، وليس لها من أفق غير المزيد من التراجع وصولاً إلى... الرحيل عن الأرض والاندحار عنها.
إطلالات العسكر الإسرائيلي من بيني غانتس إلى يوآف غالانت إلى «المتحدث العسكري الرسمي»... إلى نوع وكم ما يرد في الإعلام الإسرائيلي من مبالغات «انتصارية» لا تنطلي على عاقل، تعكس عمق القلق واتساع مداه. بل إن المضمون الإبادي الواضح لتصريحات وخطابات العسكر الإسرائيلي، والذي يراد منها، في الواقع، تهدئة الروع وتبديد الهواجس «القيامية» يؤكد على هذا القلق ولا يخفيه. فاستعراض الإرهاب الجاري في الغرف الإسرائيلية المغلقة، وترجمته في الميدان الغزاوي، وتكرار إطلاق التهديدات المكررة، من هذا أو ذاك من الضباط والقادة الإسرائيليين والغربيين، وتحديد مواعيد الاقتحام البري ومن ثم العودة عنها، كل ذلك لا يدل إلا على حال «الضياع» التي لا تزال تأسر «القرارات» وتمنعها من التبلور. محاولة «التوغل» البري الأخير ليل الأربعاء - الخميس لم تحقق هي الأخرى أياً من أهدافها. والجديد النوعي الذي سعت إليه، وغامرت في سبيله، اقتصر على «القديم» الوحشي والتدميري إياه ولم تتخطَّه. بل إن «التوغل» الذي مُهّد له بغارات عنيفة من الطيران والصواريخ وغيرها من صنوف الأسلحة المعروفة أو غير المعروفة، وأريد منها أن تكون بمثابة «بروفة» تبني عليها، لنفسها قبل أعدائها، عجزت عن الوصول إلى أي من أحياء القطاع المأهولة سواء في شماله أو شرقه، وهو دليل إضافي على ما ينتظر العدو إن أقدم وغامر، وصورة عما قد يطاوله في قادم الأيام إن تابع إصراره على حل الحرب.
ربما كان فشل «الجسر» السياسي والعسكري والإعلامي الجوي والبري والبحري، الذي أغرق إسرائيل بالدعم والمؤازرة المفتوحة، في تخفيف القلق، مفهوماً ومبرراً. فصدمة العبور كانت كبيرة وكبيرة جداً، إذ إن الصدمة لم تكتف بهزّ الأعماق الصهيونية بل «زلزلت» الكثير من مرتكزاتها. وإذا كان توفير «الطمأنينة» هو المهمة الأميركية التي تتصدّر جدول أعمال عسكرها وساستها وإعلامييها... ولو تطلّب الأمر حرباً لا تبقي ولا تذر، على ما تشي به «النقلات» الأميركية «المجنونة»، من نوع ما حصل بالأمس من إعلان البنتاغون عبر وزير حربه لويد أوستن عن ضربات استهدفت «منشآت إيرانية» في الشرق السوري المحتل، فإن الهدف الأبعد الذي استدعى ويستدعي إمطار المنطقة بالجيوش والوفود والجواسيس والرسل وتحريك الخلايا النائمة وغير النائمة، قد يكون تجدد الأوهام، ومعها الآمال، بالقدرة على إعادة بعث الحياة في «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، مع ما قد يتطلبه من توسيع لدائرة الحرب، وبما يتيح إمكانية إعادة رسم توازنات المنطقة ومعادلاتها التي وصلت إلى مرحلة متقدّمة من الرجحان في غير صالح الغرب، ولا سيّما أنه من نوع الرجحان الذي قد يفضي، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى تحقيق «الوعد» المعلن بتنظيف غرب آسيا من الوجود الاستعماري المباشر وغير المباشر.
الاستثمار الغربي والإسرائيلي في الصدمة وبعدما بلغ الذروة، يوشك هو الآخر على فقدان الزخم الذي ميّز أيامه الأولى. والحرب الإعلامية التي اعتمدت على فبركة الصور ونشر الأكاذيب ومحاولات «دعشنة» حماس... وغيرها الكثير من محاولات تضليل الوعي العام وتسميمه وآخرها شريط الفيديو الزائف الذي عرضه المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، والذي تبيّن أنه قديم ولا صلة لحماس به، لن تغير في الوقائع التي تزداد رسوخاً.
في الخلاصة، يمكن التأكيد على أن الحملة الأميركية - الإسرائيلية الوحشية والمدجّجة بكل ما تحويه ترسانة الغرب العسكرية والسياسية والإعلامية... لم تعدّل، حتى الساعة، في الميزان الذي رسمه العبور أو الذي أدّى إليه، بل إن إسرائيل هذه لا تزال عالقة في المربّع الذي رسمته نيران العبور وهندسته. من هنا، فإن احتمالات التورط الأميركي الميداني لم تعد مستبعدة أبداً. بل إن المؤشرات إلى هذا الاحتمال في تزايد مستمر... وهو الاحتمال الذي لم يغب يوماً عن خطط المقاومة وبرامج نضالها المعقود على وعد سيّدها الصادق.
المنطقة برمّتها أمام أيام فاصلة. وعلى قوى العدوان الغربي أن تستعد لعقاب لم يسبق لها أن ذاقت مرارة طعمه أو خبرت مثيلاً له.

* كاتب من أسرة «الأخبار»