لو كانت هناك من قيمة، أيّ قيمة، للدماء العربية لما سالت بهذه الغزارة ولا بهذه المجانية. شلال الدم الفلسطيني وأمواجه التي تواصل تدفّقها أغرقت الأرض أو توشك، ومع ذلك، ليس هناك من بين الحكام العرب من يسأل، ولا من يحرّك ساكناً. وإذا ما نحّينا أصوات الشارع العربي، على أهميتها التي لا شك فيها، جانباً، فإن الأصوات العربية الرسمية التي «علت» أو تعلو مندّدة أو متضامنة لا قيمة لها، وستبقى كذلك ما لم تقترن بفعل مادي له مضمون التأثير على مصالح الغرب، أو معنى الإضرار المباشر أو غير المباشر بها. المؤشرات إلى هذا الاحتمال الذي يمكن اعتباره أقل المطلوب وأضعفه لا وجود لها حتى اللحظة، خصوصاً أن الشارع لا يقوم بما عليه. فالمؤكّد، وبالرغم من غزارة الدم الفلسطيني واستمرار نزفه، أن «القامات» العربية، وبدلاً من أن تستفيد من الفرصة، تمعن في تصاغرها مجزرة بعد مجزرة، ومقتلة بعد أخرى، ولا إشارة إلى أن بينهم من هو راغب، ولو قولاً، بالكفّ عما فطر عليه من ركوع «لربّه» الأميركي أو سجود لربيبه الإسرائيلي. وهو ما لا يمكن تغييره إلا ساعة يقوم الشارع بواجبه في تهديد «العروش» وهزّ دعائمها الغربية والسعي إلى كنسها كقاذورات آن أوان التخلّص منها.وضوح المشهد الغزاوي الدامي المقرون بإمعان أبطال الإبادة الغربيين وإيغالهم فيها، بل ومفاخرتهم بصنيعهم الإجرامي، يقتضي، في ما يقتضي، إعادة التعريف بالبديهيات والتذكير بها. وأولى هذه البديهيات وأوضحها أن مسؤولية الحكام العرب عن الدم الفلسطيني المهدور، ظلماً وعدواناً، لا تقلّ أبداً عن مسؤولية الإسرائيليين وشريكهم الأميركي. هذا، طبعاً إذا ما تجاهلنا تابعيه الأوروبيين الذين اصطفّوا كما لم يسبق لهم أن فعلوا خلف هذا الوحش الذي بات يتفنّن في فصول إبادته من غير قلق ولا خوف. بل إن مسؤولية هؤلاء الحكام تكاد أن تكون أكبر وترقى إلى مستوى المسؤولية المباشرة عن كل قطرة دم غزاوية أو «ضفاوية».
الأميركي الذي يرعى الحرب ويشارك فيها، يواصل، عبر حشد القوات والسفن التأكيد، وبصلافة، على مكنوناته العدائية المعروفة والموثّقة تجاه المنطقة وأهلها. والأكيد أن الأميركي هذا ما كان ليجرؤ على كشف وجهه القبيح، أصلاً، وما كان ليقدم، على إبراز تماهيه السافر، على نحو ما فعل ويفعل سياسياً وميدانياً، لو لم يحظَ بالتشجيع العربي الرسمي. بل إن هناك ما يشي ويؤكد أن حرب الإبادة الجارية فصولها في غزة والضفة الغربية ما كانت لتكون بهذا الوضوح أو بتلك الشمولية، لولا تواطؤ هؤلاء الحكام وعلى رأسهم محمد بن سلمان ونظيره في التبعية محمد بن زايد... وشراكتهم فيها.
إن الاسترخاص الأميركي والإسرائيلي للدم الفلسطيني، من خلال الجهر الوقح والصفيق برفض أي دعوة لوقف حرب الإبادة، واستباحته بأفظع أشكال الاستباحة وأشدها دموية، كلّ ذلك ينمّ في ما ينمّ، عن مقدار الحقد الغربي وعمقه الذي لا شك في أنه يتجاوز السياسة وما يتصل بها. فالإصرار على نزع إنسانية الإنسان العربي، وتجريده منها يقول الكثير مما هو معروف عن «الجوهر» الغربي ذي البعد المالتوسي أو الدارويني. وهو البعد الذي لم يعد خافياً، ويحضر، كما لم يسبق له، في دقائق السياسة والثقافة و...
المقتلة الغزاوية، وبالرغم من أهوالها، تقابل بتجاهل الإعلام الغربي والتعتيم عليها. والإعلام المفضوح هذا لا يخجل من الاكتفاء بالتركيز على فبركة الأكاذيب واختلاق الأضاليل، والترويج لها. فهو بتبنيه للسردية الإسرائيلية يؤكد إجراميةَ الدور الذي يقوم به والذي يكاد أن يضاهي إجرامية السياسات والأفعال الغربية والارتكابات الإسرائيلية، كما يؤكد على واقع أن لا قيمة، بنظر هذا الإعلام، لكل هذا الموت الغزاوي بل وأرخص من أن يشار إليه أيّما إشارة.
العدوانية الغربية وحربها الشاملة على المنطقة تفرضان على العرب مسؤوليات تاريخية. لكن، وفي ظل ميزان القوى الرسمي الراجح لصالح الأنظمة العربية التابعة، فإن الشارع مطالب بأن يرفع من مستوى المواجهة مع حكّامه التافهين وبما يفرض عليهم، ولو بالحد الأدنى، القيام بالبديهيات التي تبدأ بإرغامهم ولو على بعض الخطوات البسيطة من نوع إغلاق السفارات الإسرائيلية وطرد ممثليها ووقف كل أشكال التواصل مع العدو... إنها ألف باء الخطوات الواجب على الشعوب فرضها على حكامهم. فالمطلوب الفعلي يتجاوز ذلك بكثير، ويشمل، في حده الأدنى، إعلان رفض كامل الخطاب الغربي السياسي والإعلامي والإعلاني، وتدفيعه أثمان تماهيه مع العدو ودعمه له، وإدانة الموقف الأميركي إدانة واضحة لا لبس فيها، والتوقف عن استقبال الرسل الغربيين...
إن أقل ما يمكن أن يقال في الموقف الرسمي العربي أنه مُخزٍ ومشين، إذ هل يعقل أن تقابل الشراكة الغربية المعلنة في القتل والحرق والتدمير وغيرها من فصول الإجرام بهذا القدر من الهوان؟ فلا سفير طُرد ولا سفارة أُغلقت ولا... ولا... وهي خطوات مهما بلغته لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الحد الأدنى المطلوب في مواجهة حرب شاملة ومفتوحة تستهدف الأطفال والنساء والشيوخ قبل أن تستهدف غيرهم.
إيمانويل ماكرون مثلاً يدعو، مدفوعاً بعنصرية بيضاء سافرة، إلى تحالف دولي إقليمي لمحاربة المقاومة. وجو بايدن يكرر تسمية المقاومة بـ«المنظمة الإرهابية». وأولاف شولتس وجورجيا ميلوني وغيرهما يواصلون تبرير الوحشية الإسرائيلية بدعوات لا تقلّ في وحشيتها عما يصيب غزة...
اليوم ومع دخول الحرب الأميركية ـ الإسرائيلية المفتوحة على غزة يومها السابع عشر يتكشّف المزيد من الأوراق، ويتضح أكثر أن الطرف الأميركي الذي لم يتردّد في إعلان شراكته في الحرب والحضّ عليها، قد قرّر إطلاق معركة أبعد من غزة، وتستهدف تحطيم المنطقة وتبديد هويتها. فالحركة السياسية الأميركية الواسعة المواكبة لحركته العسكرية، وبما يتجاوز ما ظهر منها من تحشيد عسكري ولوجستي وأمني... تؤشر إلى بعض ما خفي. وما خفي يبدو، في الواقع، أبعد بكثير مما نراه أو نسمعه. والأرجح أننا أمام خطر تجدّد الأوهام الأميركية بإمكان الإمساك بالمنطقة والإطباق على قرارها، ولو كلّف ذلك إشعال كامل المنطقة وإغراقها في حرب لا تُبقي ولا تذر.
مجدّداً، لا بد من التأكيد على ما بات واضحاً لجهة أن مسؤولية الحكام العرب عما تعيشه غزة من حرب إبادة مكتملة الأركان والمواصفات، لا تقلّ عن مسؤولية العدو - الأعداء الذين يطبقون عليها من جهات الأرض الأربع. فلولا تواطؤ بعضهم المكشوف وعجز بعضهم الآخر لما تيسّرت للعدو ولشركائه فرصة الانقضاض الوحشي والإبادي عليها، ولتردّدوا طويلاً قبل خوضها.
يبقى أن الأكيد الذي لا جدال فيه أن غزة السابحة في دماء أبنائها والمتروكة للوحش الذي يتلذّذ بمشهد الأشلاء وسماع العويل ليست وحدها. فالمنطقة تعجّ بالمقاومين الجاهزين لمحاسبته ومحاسبة رعاته عن كل قطرة دم ودمعة طفل وعويل أمّ... وهي المقاومة التي وعدت وستفي بوعدها حتماً.
وليعلم الإسرائيلي ورعاته الغربيون وتابعوه العرب أن العقاب آتٍ حتماً ولن يتأخر، شاء من شاء وأبى من أبى.