لم تكن قوة إسرائيل «المطلقة» إلا وهماً من الأوهام، وعلى هذا الوهم بنت وفيه استثمرت... أحسن الاستثمار. وإلى حسن الاستثمار، الذي لا جدال فيه، جاءت مزاعم «التفوق» اللاحق لتجعل من الوهم «حقيقة» إسرائيلية وغربية أكيدة. النجاحات والعوائد التي فاقت توقعات مستنبتيها الغربيين جعلتهم يضاعفون من حجم الاستثمار فيها وبها مرات ومرات، وبما يفوق قدرة الكيان المصطنع على الهضم، الأمر الذي مكّن الكيان تمكيناً لم تكن الرجعية العربية ببعيدة عن مراحله الحاسمة. فالرجعية التي لعبت أدواراً قذرة ومكشوفة في هذا التمكين، الذي لم يلبث أن قاد إسرائيل إلى طلب التوسع والسعي إليه، هي الرجعية نفسها التي كانت في صدد التطبيع الكامل، وعلى مشارف الوصول به إلى الخواتيم «التصفوية» والخيانية، لولا أن «الطوفان» الفلسطيني جاء في أوانه... الموعود. وهي أيضاً وأيضاً، الرجعية نفسها التي ترعى من خلال صمتها المشين على فصول الوحشية الإسرائيلية - الأميركية الجارية اليوم ضد غزّة وأهلها المدنيين.القول بوهمية القوة الإسرائيلية مبالغة قابلة للجدل، ولكنها، في الواقع، امتداد للقول الآخر الذي يقول بالقوة المطلقة ولا يقلّ عنها، بل إن هذه وتلك هما وجها عملة المبالغة نفسها. ومع ذلك، فإن مبالغات القوة الإسرائيلية التي تسللت إلى بعض الأذهان العربية، وسمحت لها بـ«الاستقرار» المديد، لم تكن بلا مفاعيل سلبية على إسرائيل نفسها. إنها كعادة معظم الأشياء التي تنطوي على الشيء ونقيضه. فالوهم المزعوم هذا سرعان ما عشّش في الوعي الإسرائيلي نفسه وجعله يصدقه، وربما أكثر مما صدّقه العرب أنفسهم... إلى أن جاء «امتحان» المقاومة اللبنانية - الفلسطينية الذي أسقطه سقوطاً مدويا لا قيامة له من بعده.
ويمكن الاستدلال على الوهم الإسرائيلي وتأكيده من حقيقة أن كل «الحروب» الإسرائيلية لم تكن، ولا بأي معنى، بالحروب. فالحرب لكي تكون حرباً تحتاج إلى خصم تقارعه، أما حين ينعدم الخصم، وهذه هي الحال الذي ميزت الحروب الإسرائيلية، فإن الحرب تتحول إلى شيء آخر لا علاقة له بالحرب وإن تسمّت باسمها. بل إن وقائع الحروب التي «ربحتها»، والتي أسست للوهم وغذّته، لم تسجل أي مواجهة من المواجهات التي عادة ما تسم الحروب. فالمواجهات التي تواصل إسرائيل التغني بها وتبني عليها، لم تكن أكثر من «مطاردات» لفلول فلسطينية وشراذم عربية متفرقة ومشتتة، أو، في أحسن الأحوال، «مواجهات» جزئية معروفة النتائج سلفاً وخاضتها ضد «قوات» عربية مرتجلة لا حول لها جراء غياب القرار وسوء التسليح وقلة التدريب وافتقاد التنظيم ولو بمستواه... الكشفي.
الحرب الجدية الأولى التي خاضتها إسرائيل، إذا ما تجاوزنا «حرب الاستنزاف»، هي حرب تشرين ١٩٧٣، أو حرب «يوم الغفران». ومع ذلك فإن هذه الحرب لم تستوفِ كامل شروطها، ولم ترقَ إلى اعتبارها بالحرب «الجدية» جراء خيانة أنور السادات وانقلابه على خططها وتراجعه عن منجزاتها المحققة، والامتناع عن المضي بها نحو خواتيمها المنطقية التي كانت انتصاراتها قد أمست باليد العربية، وكان من شأنها أن تطيح، وإلى الأبد، بكل ما كان قد تراكم من أكاذيب العجز العربي أو التفوق الإسرائيلي. خيانة السادات أدت إلى خسارة التفوق العسكري العربي شبه الكاسح الذي تحقق في الأيام الأولى، وأضعف من فرص البرهنة العملية والملموسة ليس على وهمية القوة الإسرائيلية المطلقة فقط، بل والنسبية أيضاً. في تلك الأيام المجيدة شهدت الجبهتان المصرية والسورية تحقيق إنجازات عسكرية كبيرة وحاسمة، فعلى الجبهة المصرية تقدمت قوات الجيش المصري وعبرت قناة السويس وحطّمت دفاعات «بارليف» وتوغلت بعيداً في سيناء... أما على الجبهة السورية، فقد وصلت قوات الجيش السوري إلى سهل الحولة وبحيرة طبريا، وكانت الاندفاعة السورية قادرة على الوصول إلى ما هو أبعد لو أن السادات ثبت على وعود التنسيق ومقتضيات الخطط، أو لو لم يخن قوات «الجيش الثالث» المصري وسماحه في محاصرته... الأمر الذي سمح للعدو في استعادة المبادرة، ثم الاستفراد بالجيش السوري الذي وجد نفسه يخوض الحرب منفرداً.
الوهم الذي ابتنته سهولة السيطرة على الأرض الفلسطينية في الـ ٤٨، والتوسع باتجاه الأراضي العربية الأخرى في الـ ٦٧، وما تلاه من قضم وضم... سرعان ما تضخم إلى درجة جعلت الشهية الإسرائيلية مفتوحة باتجاه البناء على ما تحقق وتعظيمه عبر الإصرار على محاولة التبديد الكامل للشعب الفلسطيني ومحو آثاره. وهذا جوهر البرنامج الإسرائيلي وحقيقته التي لا تقبل لا التسويات ولا الحلول، وهو الجوهر الذي يحكم التوجهات الإسرائيلية العميقة التي لا حل معها إلا بالقوة. وهي القوة التي أمكن للعرب، أخيراً، توفيرها عبر الرهان على المقاومة التي برهنت في محطات المواجهة اللاحقة كلها حقيقة هذا الكيان الهشة، بل والهشة أكثر مما تحتاجه الهشاشة نفسها. وهذا ما شهد عليه العالم في لبنان صيف عام ٢٠٠٦ وقبلها في أيار ٢٠٠٠، وبعدها في غزة ٢٠٠٨، و٢٠١٢، و٢٠١٤، و٢٠٢١، واليوم طوفان الأقصى التي لن تتوقف قبل قول الكلمة الأخيرة، وهي الكلمة التي ما قبلها لن يشبه ما بعدها... ولو أطبقت السماء على الأرض.
غسان أبو ستة
غسان أبو ستة مقاوم فلسطيني يحمل صفة طبيب. أتيح له كثير من الفرص المهنية والعلمية... وبهدف إبعاده عن فلسطين، وعن غزة خاصة، قُدم له ما لم يُقدم إلى غيره من الأطباء الفلسطينيين والعرب. لكنه، ورغم الإغراءات التي يصعب، في العادة، مقاومتها، أصرّ على البقاء قريباً من شعبه ومن أهله.
كان في وسع غسان، لو شاء طبعاً، أن يعيش في العاصمة الغربية أو العربية التي يريد. لكن، الإنسان الذي فيه، والفلسطيني الذي يسكنه، والعربي الذي يحرك خطواته ويصوغ أفكاره، اختار وعن وعي بلّوري أن يكون في قلب غزة، بل وفي قلب جسمها الطبي الذي يقاوم بدوره، ما أمكنه، وبما تيسّر له من موارد شبه معدومة، الوحشية الإسرائيلية - الأميركية غير المسبوقة، ويتصدّى لها تصدي الأبطال والقدّيسين.
غسان أبو ستة مثال للمناضل العربي والفلسطيني الذي يُحتذى به ويُبنى عليه. ومثال لكل من يتمسك بإنسانيته الحقة والصميمية ويحرص عليها.