جاءت مشاركة العراق في ما سُمّي «مؤتمر القاهرة للسلام»، وخصوصاً بعد رفض الجزائر وتونس المشاركة، مفاجئةً بعض الشيء للعديد من الأوساط المحلية والخارجية لاعتبارات عديدة، من بينها أنَّ الحكومة العراقية الحالية، التي يرأسها السيد محمد شياع السوداني، متبناة ومدعومة ومقترحة من قبل الأحزاب والفصائل الإسلامية الشيعية الحليفة لإيران والتي يجمعها «الإطار التنسيقي» ضمن تحالف أوسع يُدعى «إدارة الدولة».
لقد انتهى المؤتمر المذكور بفشل ذريع، فلم يصدر عنه حتى بيان ختامي، بعد أنْ تحوّل إلى ما يشبه منصة إعلامية مباحة للوفود الغربية - وبعض الأطراف العربية كالأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط - للتهجّم على الشعب الفلسطيني ومقاومته الذي تُرتكب بحقه حرب إبادة شنيعة وللدفاع عن الكيان بذريعة «حق الدفاع عن النفس».
وقد ذكرت بعض التسريبات أنّ الحكومة العراقية حين علمت باحتمال مشاركة ممثّل عن حكومة الكيان الصهيوني، وهو أمر لم يؤكّده أو ينفِه الطرف المصري المنظّم، هدّدت بالانسحاب الفوري من المؤتمر إذا حضر فيه ممثل الكيان. أمّا الجزائر وتونس، فقد اختارتا أقصر الطرق وأكثرها مبدئية ورفضتا المشاركة في المؤتمر كما ذكرت جريدة «الشروق» الجزائرية (عدد 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تقرير لمحمد مسلم). وخلال جلسة المؤتمر الافتتاحية، كانت كلمة السوداني موضع إعجاب وإطراء واسعيْن لأنها كانت قوية وواضحة في إدانتها للمجازر الإجرامية المرتكبة في غزة وللأطراف المساندة للكيان والساكتة على جرائمه، وخصوصاً في الفقرة التي خرج فيها السوداني على نص خطابه المكتوب وردَّ بها بشكل مرتجل وغير مباشر على الخطاب العدواني والاستفزازي الذي ألقته رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرّفة الفاشية جورجيا ميلوني والتي سبقت السوداني في الكلام حسب الترتيب الهجائي لأسماء الدول، وقد ردّ السوداني على ميلوني بحزم حين جاء دوره في الكلام بعدها قائلاً: «إن بعض الأصدقاء هنا يصفون الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه في كلماتهم بأنه يقوم بأعمال إرهابية بينما يعتبرون الجرائم المدمِّرة المُمنهَجَة التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني أعمال دفاع عن النفس»! كما أن السوداني رفض في فقرة أخرى أن يتطوّع أي طرف عربي فيتكلم نيابة عن الفلسطينيين ويتبرّع باسمهم بأي شيء، في إشارة فسَّرها البعض بأنها موجّهة إلى الدول التي ترتبط بالكيان الصهيوني باتفاقيات ومعاهدات استسلام مذلّة.
وعند نهاية الجلسة الافتتاحية، انسحب السوداني لحظة التقاط الصورة الجماعية التذكارية لرؤساء الوفود المشاركة، وقيل عندها إنه والوفد العراقي انسحبا من المؤتمر ولذلك لم تظهر صورته فيها بينهم، ولم يصدر بيان عراقي رسمي يؤكد انسحاب الوفد. غير أن أنباء تسرّبت بعد ساعات وقالت إن السوداني رفض المشاركة في التقاط الصورة الجماعية لأسباب بروتوكولية تتعلق بترتيب مكان وقوفه حيث طلب منه الطرف المنظّم المصري أن يقف خلف أمير قطر فرفض وانسحب. ومعلوم أنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الانسحاب، فقد سبق أن غاب السوداني عن الصورة التذكارية للقمة العربية الثانية والثلاثين في جدة، وللسبب ذاته، وهو رفضه الوقوف في الصف الثاني.
بعيداً عن كل هذه التفاصيل الصغيرة، والتي قد لا تخلو من دلالة، يبقى الدور العراقي في الدفاع عن الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة التي تُشن عليه، وفاق عدد الشهداء فيها الأربعة آلاف، موضع تساؤلات قد نجد بعض الإجابات والتفسيرات لها في الآتي:
معلوم أنَّ العراق، ومنذ الاحتلال الأميركي سنة 2003 وقيام حكم المحاصصة الطائفية سنة 2005، يُعتبر بلداً منزوع السلاح وخاضعاً للمراقبة الأميركية والغربية وحتى الإسرائيلية غير المباشرة أو عبر القوات الأميركية العاملة في العراق، وممنوعاً من شراء الأسلحة من الدول الشرقية كروسيا. فقد أفشلت واشنطن محاولة عراقية لشراء منظومة صواريخ «أس 300» سنة 2020 كما ورد في تصريح لعضو لجنة الأمن والدفاع النيابية علي الغانمي، كما مُنع من شراء منظومة رادارية روسية وبقي العراق مستباحاً جواً حتى الآن، كما تعرقلت محاولة عراقية أخرى في خلال العام الجاري لشراء سرب من طائرات «رافال» الفرنسية المقاتلة ولم تتم حتى الآن. كما شكت الحكومة العراقية أكثر من مرة من عدم تزويدها من قبل الجانب الأميركي بقطع الغيار الخاصة بطائرات «أف 16» التي اشتراها العراق وتسلّمها بعد انتظار طويل وعرقلة مديدة، ما أدّى إلى أن يتحوّل بعض هذه الطائرات إلى كومة من «السكراب» التي لا نفع فيها لانعدام قطع غيارها.
إنّ هذه الإجراءات، على محدوديّتها وتواضعها، هي الرد المعقول على الهمجية والوحشية الصهيونيتيْن الأميركيتيْن في فلسطين، وإلا سيلعن التأريخ كل من كان بمقدوره القيام بها ولكنه رفض وتردّد


غير أن العراق، رغم ما تقدّم من بؤس تسليحي يضعه خارج دائرة الصراع الفعلي، تتوفّر فيه عدة أوراق قوية بإمكانه استعمالها في الدفاع عن نفسه واستعادته سيادته واستقلاله، أولاً، وفي المساهمة الفعّالة في قضية العرب الأولى فلسطين والدفاع عن شعبها في وجه المجازر الدموية الصهيونية المتتالية، ثانياً. ولعل من أهم هذه الأوراق هي القدرات القتالية البشرية والخبرة العسكرية المتراكمة لدى الجيل العراقي الشاب الحالي والذي ساهم عبر قوات «الحشد الشعبي» في حرب تدمير العصابات التكفيرية الداعشية، التي كانت حرباً قاسية دامية تكلّلت بالانتصار. يمكن لهذه القوى المدرّبة جيداً أن تلعب دوراً مركزياً وباسلاً بأسلحة خفيفة ومتوسطة إذا ما تطوّر الصراع وتدخّلت واشنطن في العراق والمنطقة.
الورقة القوية الثانية، هي تفعيل القرار الصادر عن مجلس النواب العراقي بتاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2020، والقاضي بإخراج قوات أميركا العسكرية فوراً من الأراضي العراقية، ومطالبة السفارة الأميركية بإخلاء مبانيها وهي قلعة حصينة مؤلّفة من عدّة مبان مسلّحة بالأسلحة الثقيلة ومنظومات صاروخية حديثة تحرسها وتديرها قوات خاصة، ومطالبتها بالانتقال إلى مبنى آخر لا يزيد على حجم السفارة العراقية في واشنطن عملاً بمبدأ التعامل بالمثل! إنّ هذه الورقة المشروعة لا تحتاج حتى في جانبها الإجرائي إلى طرح الموضوع للتصويت مجدداً في مجلس النواب، فالقرار مُتخذ، ولا يحتاج إلا إلى تفعيله من خلال مطالبة الحكومة بتنفيذه الفوري. ويمكن لنا أن نتخيّل الهزة التي سيحدثها هذا الأمر على بايدن وإدارته، وهو الذي يحاول أن يجعل من إسناده للكيان الصهيوني في مجازره رافعة انتخابية فعّالة له في معركته الرئاسية القادمة.
إنّ هذه الإجراءات، على محدوديتها وتواضعها، هي الرد المعقول على الهمجية والوحشية الصهيونيتيْن الأميركيتيْن في فلسطين، وإلا سيلعن التأريخ كل من كان بمقدوره القيام بها ولكنه رفض وتردّد حرصاً على بقائه في الحكم وترك دماء أطفال غزة تُسفك مدراراً!
ولكننا، من جهة أخرى، لا نعوّل كثيراً على القوى السياسية النافذة التي تدير الحكومة وتهيمن عليها وعلى مجلس النواب، بغضّ النظر عن هويتها الطائفية أو العرقية، نظراً إلى ارتباطاتها المسبقة بدولة الاحتلال، وتعويلها عليها في توفير الحماية والغطاء الغربي، وبسبب فسادها الداخلي وصراعاتها الداخلية النابعة من طبيعة الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية، بل نلقي بالحجة عليها من خلال طرح هذا التحدي على هذه القوى الحاكمة كنوع من الشهادة أمام التأريخ!
لقد انتهى زمن الصواريخ السياسية العتيقة التي كانت تُلقى لتسقط على مرائب ومخازن القواعد الأميركية الخالية، وجاء زمن استعمال كل الأوراق الممكنة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من حرب الإبادة المتفاقمة ضده هذه الأيام!

*كاتب عراقي