بتحريك وزير الدفاع الأميركي حاملة ثانية إلى شرق البحر المتوسط، يتدحرج موقف الشرق الأوسط إلى حرب أوسع. تبدو أولى سماتها وقوع إسرائيل في بؤرة جغرافية صعبة، متداخلة بعامل سكّاني بالغ التركيب قد يجعلها تواجه أكثر من «طوفان»: يكفل قيام أوسع احتجاجات فلسطينية ممكنة، الذي بات الآن ممكناً، شلّ الفعالية الإدارية الصهيونية، ووضْع مؤسساتها في مأزق أمني وجودي، يعمّق ملمح «الدولة الفاشلة» الذي تواجهه الآن، والكلفة الاقتصادية لغياب الاستقرار. ويعكس ضعفَ حكومتها، وتسديدها ثمناً باهظاً لتفلّت الجناح الأكثر تطرّفاً على الأرض خلال السنوات الماضية، وحفاظها على ضغط غزة الذي تورّطت فيه طويلاً لمنع استقرار الوضع المقاوم في القطاع وإجهاض تحويله نموذجاً قابلاً للحياة والذي يعني لها توسّعاً مرفوضاً لقوة نحو ثلث الفلسطينيين سكّان فلسطين التاريخية.تفتقد إيران، أكبر قوى المقاومة تسليحاً وتقنية، منفذاً مباشراً إلى فلسطين وشرق المتوسط، وارتكز التصور الإيراني للجانب الميداني للصراع على حلف تقسيم مهام، يشمل اللبنانيين والفلسطينيين، عكسَه أخيراً التنسيق مع غرفة عمليات محور المقاومة، الذي أكّده أحد مصادر إعلامه، خلال معركة «طوفان الأقصى». ويقرأ الغرب التلاصق الحذر لقدراتها مع الجولان، وحضور حزب الله هناك، تحقيقاً لـ«منفذ مباشر» وحيد يرفع منسوب الخطر على إسرائيل، ونتاجاً كارثياً للحرب السورية، مثّل بحدّ ذاته تتويجاً للإخفاق الغربي فيها. من هنا، جاءت سرعة الاستجابة الميدانية الغربية، الأميركية والبريطانية، بإرسال الحاملات والسفن، التي استشرفت سيناريو الكمّاشة، المعلن سابقاً بلسان لبناني: يمكن انتزاع مكاسب هائلة للفلسطينيين بضرب و/أو اقتحام الكيان من الشمال (لبنان) والجنوب. بعد نضج مفاعيل نقل تقنية الصواريخ إلى غزة، وتدبير لوازمها، وصناعتها بكمّ كبير، ومع تمسّك إيران القديم بأهمية الصواريخ الطويلة المدى في مشروعها السياسي واستراتيجيتها.
من جهة أخرى، يفتح احتمال الاشتباك السوري الصهيوني المباشر، بالشروط الحالية وسياق رؤية محور المقاومة، البابَ لمشاركة القدرات العراقية في جبهة فلسطينية، بالانتقال إلى الجولان برّاً وجوّاً، إذا قررت سوريا تفعيل تمسّكها الرسمي الطويل بتحريره. السيناريو الذي انتبهت إليه أميركا والغرب مبكراً، وسط الحرب السورية، فأقاموا قاعدة التنف والحضور الأميركي في دير الزور، بجوار الحضور الفرنسي في الشمال. ومثّل الصراع حول منفذ القائم، بين العراق وسوريا، وكامل خط الحدود، أحد مسارات الحرب، بكل أدوات الغرب الخشنة المستخدمة فيها، وأبرزها الفصائل الإرهابية. أخيراً، أعلن «الحشد الشعبي» العراقي جاهزيته لإمداد الفلسطينيين، وقراره بمنع أميركا من إسناد الاحتلال، وأعلن أحد أبرز مكوّناته الاستعداد للمشاركة، ما يفعّل العامل العددي الكمّي عند المحور، بهذا المنفذ، والعامل النوعي، باستقدام قدرات متطورة من إيران رأساً، وسيتيح استخدام كلاهما الوضع السياسي الذي تفتتحه المواجهة، بعد تلويح اللبنانيين بسيناريو اقتحام الجليل حال اقتحام غزة برّاً.
يسمح الموقف الحالي، وأفقه إن غابت التهدئة، بتبلور درجة اتّصال كامل غير مسبوقة، وآلية قتالية، لهذه الكتلة الجغرافية والسكّانية الكبيرة. تتكامل مع فتح جبهة جنوب فلسطين داخلها، التي تتخذ الآن شكل هامش عملياتي شرق غزة، جاهز للالتفاف حول محاولة اقتحام القطاع المرتقبة، المجمَع على توقّع فشلها. مشهد يكثّف، مع 3 ملايين فلسطيني يسكنون الضفة، أزمة وجود إسرائيل، وفي الخلفية الخزّان البشري المماثل في الأردن، المكافئ تقريباً لغزة، بارتباطه السياسي التاريخي، شعبياً، بعبور حدود فلسطين، وشعار العودة، عاملاً ثقافياً جامعاً بحدّ ذاته. كأنه اجتماع أوراق قوة عربية تقليدية، السكّان والجغرافيا، يمنحها التسليح والإعداد، رغم الحصار والضغط الغربي، إمكانيةَ التقدّم، وتدعمها عوامل مثل الباليستي الإيراني الطويل المدى، وطبيعة أرض جنوب لبنان، من حيث تقصف الأهداف، وتمرُّس نخبة المقاومة هناك بحرب المدن بعد خبرة سوريا، ما يفتح الباب، لأول مرّة، لمقاربة حرب تحرير شعبية واسعة ضد الاحتلال الاستيطاني.
تغيّر لتشكيل الصراع والعلاقات الإقليمية، تعمّقه معركة «الطوفان» تحديداً بتصعيدها قدرات تحالف المحاصَرين والمحرومين


كما يستحيل فصل وضع كهذا عن مزارع شبعا، المحتلّة وفق تعريف الدولة اللبنانية الرسمي، وعن مقاومة وجيش لبنان، يستحيل - كذلك - عن اليمن، البعيد بالكيلومترات، لكن تجعله عوامل القومي والثقافي والعقائدي أقرب. ومعه ميزة الموقع الجغرافي، وتحصّنه الذي يقيه حضور أميركا البحري في مضيق باب المندب، الذي يصعب أن يمنع، في الفصل المتوقّع من الصراع هناك، اليمنيين من ضرب قواعدها في الخليج، إن أرادوا. جوار عامل آخر، سياسي، صنعه توقيت المعركة ولعلّه لم يكن عفوياً، هو موقف السعودية المتضرر، وقد استطاعت أخيراً وقف استنزافها في اليمن، وجاءت مجاراتها لمشروع التطبيع، وحزمة الاتفاقيات «الإبراهيمية»، موازية لعودة علاقاتها بسوريا واتفاق التهدئة مع إيران. اتجاهٌ يرمم كيان ودور «محور الاعتدال» القديم، المملكة ومصر والأردن والإمارات حديثة الصعود، ويتعاضد بقطر وتركيا بديلاً للمنافسة الحادّة، ويخفّض الرهان على قوة الغرب وإسرائيل، من باب واقعي.
هذا كلّه، والتدحرج المتوقّع، التالي للعملية البرّية بدرجة أو أخرى، يُنتج إجماعاً رسمياً لدول الإقليم على تجنّب التصعيد، وفرصة لإجبار إسرائيل، تحت ضغط الهزيمة، على تبريد طويل للوضع، لإجهاض التحولات الكبيرة الممكنة. كما فرَض تراجعاً أميركياً نسبياً، يضغطها لتقديم تنازل مكافئ للإخفاق الميداني، مقابل إجماع رسمي عربي، يشمل حلفاء أميركا الخليجيين وغيرهم، على استغلال الفرصة، الذي تعكسه وحدة خطابهم، العائد إلى رفع الصوت بحلّ الدولتين، والدعوة إلى فكّ الحصار وإطلاق التفاوض. اصطفافٌ يتوّج انقضاء مرحلة، وتغيّر لتشكيل الصراع والعلاقات الإقليمية، تعمّقه معركة «الطوفان» تحديداً، بتصعيدها قدرات تحالف المحاصَرين والمحرومين، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، المعرّضين لنهب مركّب، ويحيطهم وضع حرج لدول مأزومة، في شمال أفريقيا وغرب آسيا وأطراف الخليج. ويمنح التنسيق والمواقع الجغرافية، وتكامل الأدوات لفعاليتهم قدرة يصعب احتواؤها، تصادِم وتدفع حتماً المظلّة الغربية، التي تظلّل الخليج وغيره، استراتيجياً، بموافقة أنظمة متمسّكة بها.
وضَع انقلاب الموازين الجاري الصينَ وروسيا محلّ دعم موقف المقاومة، ودعَم هذا الاصطفاف المستبعَد نجاحه في انتزاع «دولة» للفلسطينيين، ضمن حلّ الدولتين، الذي شاخ وتجاوزه واقع معركة «الطوفان». بخصوصيتها المطلقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، التي تتضح تباعاً، وهي تأثيرها السكّاني الاجتماعي داخل فلسطين نفسها، لا خارجها، الذي يفرض (على مدى طويل) تفكيكاً للكتلة السكّانية الصهيونية، وتآكلاً للمجتمع بمعنى فيزيائي: عُطّلت الإنتاجية، الزراعية والصناعية، لسكّان وقدرات مستوطنات وكيبوتسات أقصى الشمال وأقصى الجنوب، على مساحات واسعة من الأرض، وأُخلي أغلبها، إلى خارجها أو إلى الملاجئ، وتترقّب مدن الساحل والوسط الكبيرة آلاف النازحين، من مواطني الكيان، وانقساماً اجتماعياً داخلها تجعله كتلة فلسطينيي 48 ممكناً.
يفرض عامل الأرض والسيادة نفسه لأول مرة بهذا الحجم، منذ عام 1967، ويجلب الآن، بفعل موقع غزة، دور طرف أساسي كان الأكبر تأثيراً وقتها، وغاب طويلاً عن الحضور المعتبَر في الداخل الفلسطيني، أي مصر، المنفذ الوحيد للقطاع على العالم. وتواجه الآن آثار موقفين متتاليين من إسرائيل وأميركا، يمثّلان انقلاباً موازياً للانقلاب العام، في محددات العلاقة؛ طرْح جيش الاحتلال «إخلاء القطاع من السكان»، الذي لا يعني سوى تهجيرهم إلى سيناء، وامتناع الثانية عن ضمان تأمين المساعدات عند دخولها، حتى لإخراج رعاياها ومنع اندلاع حرب إقليمية، بل تصاعَد غطاؤها لاستهداف المدنيين، الذي جاء عسكرياً مع استقدام حاملتين وطائرات وفرقة طوارئ، لمعالجة وضع عسكري مرتقَب جهة فلسطين، من دون التفات إلى انفجار حدود مصر، في تغيّر للصياغة الاستراتيجية التي أقامتها كامب ديفيد، لعقود، بصفتها توازناً يضمن أمن مصر القومي، وأرضها، مقابل دور إقليمي محايد.
سيشكّل الجنوب الفلسطيني والساحل والضفة، وسيناء، في الأسابيع القادمة، ميدان صراع مركّب المستويات. تبدو فيه القاهرة أقدر من طهران، نسبياً، على تشكيل أوسع موقف إقليمي ودولي لفرض تهدئة، يتبعها تفاوض، وصاحبة المصلحة الأكبر مطلقاً في استقرار الجنوب. وطهران أقدر على إسناد المقاومة، بالمعنى الملموس والسياسي كلاهما، وقد صرّحت بجاهزيتها وحلفائها للمشاركة. وكلاهما يصطدمان بأميركا، التي تتّضح أولوياتها، أكثر من أي وقت مضى، في حضورها المباشر - الآن - على الأرض لإسناد الموقف الميداني الإسرائيلي. لأنها ترى ميداناً آخر نحو الشمال، حيث تلتقي حدود سوريا ولبنان، يمتد من القنيطرة إلى شبعا، ومن بنت جبيل إلى مستوطنة المطلّة، يمكن للمحور تفعيله للتكامل مع طوفان الجنوب، ويتّسم وضعه (رسمياً) بغطاء قانوني دولي، كونه أرضاً محتلّة، جوار الشريط الحدودي المباشر مع شمال فلسطين، جنوب لبنان، الجبهة المعدّة بعناية، لسنوات، للانفتاح على الجليل.
* كاتب مصري