إذا كانت الحياة الراغدة عاجزة، غالباً، عن صقل البنيان والأفكار والعقائد، وبالتالي عن إنتاج رجال أشدّاء أو قادة عظماء، فإن الأزمات في المقابل، وخصوصاً عندما يشتدّ أوارها، هي التي تضع المجتمعات والأفراد على محكّ البقاء. وبهذا، فهي تقتلع المُوات عند هؤلاء من جذوره، ثمّ تُعجّل في نماء الأفكار والتجارب والأساليب لديهم، دافعةً إياهم إلى تطهير الذات وإبراز الهوية، الضامنَين، على الدوام، لسلامة كينونة الشعوب ودوامها. قد تتيح هذه المعادلة فهم ذلك الرجل/ الظاهرة، والذي خرج علينا فجر الـ7 من تشرين الأول، معلناً، بصوت جهوري واثق وصورة مظلَّلة، بدء عملية «طوفان الأقصى»، واضعاً إسرائيل، الفكرة والكيان والمشروع، أمام اختبار لم تجد نفسها إزاءه منذ نحو نصف قرن، وموقظاً في «ذاكرة السمك» لديها أن أمّة عبَر أجدادها «بارليف»، لن يكون عصياً على أحفادها عبور «الساتر» أو «الغلاف».

تقول السيرة الذاتية لمحمد دياب إبراهيم المصري، وشهرته محمد الضيف، إنه من مواليد مخيم خان يونس في قطاع غزة، لأسرة فلسطينية تعود في أصولها إلى قرية القبية التي ترتاح على أكتاف جبال القدس وعلى مبعدة 25 ميلاً عنها. والراجح هنا، أن الأسرة كانت قد نزحت عن بلدتها في أعقاب المجزرة التي ارتكبها أرييل شارون فيها ما بين مساء 14 تشرين الأوّل وصبيحة اليوم الذي يليه من عام 1953. عام الولادة، 1965، سيشهد في اليوم الأول منه الطلقة الأولى لمنظّمة «فتح»، والتي أعلنت فيها أن تحرير فلسطين يمرّ «عبر نصلة البندقية». بدأ هذا التحوّل يرسم ملامح التفكير والسلوك لدى جيل صار شعاره الأعلى: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، مرخياً بحمولاته على اليافعين الذين راحت عوالمهم تتشكّل على وقع تلك الشعارات، ثمّ على وقع الانكسارات التي تخلّلتها في أحايين عدّة قفزات كان يمكن لها أن تخطّ مساراً واضحاً فيما لو ثبتت العقيدة، ولم ترتجّ اليد القابضة على الزناد.
على أن الضيف لم يكن من بين من ارتجّت أيديهم؛ إذ سيشير انضمامه، في عام 1987، إلى حركة «حماس»، حديثة العهد آنذاك، إلى خياره الرافض لمسارات التسوية التي كانت تباشيرها تلوح في الأفق. وفي الغضون، كان الخيار في بداياته ينحو في اتّجاه المقاومة عبر «الثقافة»، أي الوقوف عند خطوط الدفاع الأخيرة عن الهوية، الأمر الذي يمكن رصده عبر تأسيسه فرقة «العائدون» الفنية أواخر عام 1988، لكنه سرعان ما قرّر الإقلاع عن خياره ذاك، والانتقال إلى خطوط الدفاع الأولى، حيث ستقابِل خطوات «الحبو» في ذلك المسار عثرات عدّة، أسهمت جميعها في تصلّب الرؤيا و ثبات العقيدة، اللذَين فرضا في النهاية سلوكاً عملياتياً قاده مع آخرين، مطلع التسعينيات، إلى تأسيس «كتائب القسام» كذراع عسكرية لحركته «حماس»، غضّة العود وقتذاك.
ذاع صيته بعد اغتيال القائد في «القسام»، عماد عقل، عام 1993، وسرعان ما أضحى على قائمة المطلوبين بعد ذلك بعامين. وفي هذا، يروي «أرشيف الذاكرة» الفلسطيني أن إسحاق رابين، رئيس وزراء العدو، كان قد طلب في لقاء له مع ياسر عرفات عام 1996، اعتقال الضيف، لكن «أبو عمار» أبدى استغرابه من الاسم، قائلاً إنه «لم يسمع به من قَبل»، ليكتشف، بيريز، أن عرفات كان «يكذب»، وأن إنكاره كان بدافع حماية «الشبل الواعد». لكن شهرته أطبقت الآفاق، مع قيام السلطات الفلسطينية باعتقاله في أيار 2000، في سياق التفاهمات الأمنية التي جرى التوصّل إليها ما بين هذه الأخيرة وبين حكومة الاحتلال ربيع هذا العام الأخير. وهو إذ استطاع الفرار بعد مدّة وجيزة، وجد نفسه أمام محاولة اغتيال لم يُكتب لها النجاح، ثمّ عادت لتتكرّر عام 2002، بطائرة «أباتشي» أطلقت صوب مركبته صاروخاً موجّهاً، وفي حينها، استطاع الطبيب عبد العزيز الرنتيسي نقله إلى مكان مجهول ثمّ معالجته فيه.
من بين المحاولات الخمس التي جرت لاغتياله، كانت محاولة عام 2006 هي الأكثر قرباً من النجاح، ومن جرّائها أصيب الضيف بجروح بالغة. وفي حينها، سرّبت الاستخبارات الإسرائيلية معلومات تقول إنه «فقد إحدى عينيه»، وإنه «بات مقعداً على كرسيّ متحرّك». لكن «الشبح» الذي واظب على الظهور، مذّاك، بصورة معتمة تصوّر نصف الجسد فقط، عاد ليظهر، قبل نحو سنتَين، وهو واقف على قدميه، لكن من دون التخلّي عن اللثام الذي لازمه في كلّ حالات ظهوره القليلة. أمّا محاولة عام 2014، فقد كانت الأشدّ إيلاماً بما لا يقاس؛ إذ إن الخسائر هذه المرّة لم تقتصر على «العين» أو «الأعصاب»، وفقاً للرواية الإسرائيلية، بل تعدّتها لتصيب بعضاً من الذات، زوجته، وبعضاً من الروح، ابنه علي ذي الأشهر السبعة. ومن حينها، راحت الأدبيات الإسرائيلية تطلق عليه اسم «ابن الموت»، فيما راح رفاقه يسمّونه «وزير دفاع فلسطين»، وهو اللقب الذي قيل إنه يطرب له حين سماعه.
في الساعة السادسة من صباح السبت، الذي سيصبح «سبت العبور»، بثّ موقع الإعلام العسكري التابع لـ«القسام» تسجيلاً للضيف، بدا فيه الأخير بصوت مهيب، واثق، وخالٍ من الرجفة التي ترافق حناجر القادة في أوقات عصيبة كهذه. للحظة، ظهر صوت الضيف وكأنه يختزل مسارات القضية كلّها منذ أيار 1948 حتى اليوم، ولوهلة، كرّس الصوت صاحبه كمالك لقرار السلم والحرب في فلسطين، غير عابئ بـ«الأوسلويين» الذين توارت أصواتهم، قبيل الفعل بسنوات، على وقع «تهويد» الأقصى الذي كثيراً ما استغاث ولم يكن هناك من مغيث، سوى ذاتٍ جمعية ارتمت بأياديها ولحومها على محرابه تحاول منع تدنيسه. لكن «الضيف» قرّر، فجر 7 تشرين الأول، أن يكون نتاج تلك الذات، بل والمعبِّر عنها في صيرورةٍ ما انفكّت دورة التاريخ تثبتها مراراً، لكن من دون أن يصبح الفعل «عِظة» عند «المارقين».
في غضون الأيام الأربعة الماضية، أضحى الضيف صاحب الكلمة العليا فلسطينياً، وصاحب قرار الحرب والسلم فيها. أمّا النياشين التي زيّنت صدره فهي أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى: هو صاحب «عبور السبت»، و«سيف الأقصى»، و«حفيد عز الدين البار»، و«داحي حصن أوسلو»، فما الذي يتبقّى، والحال هذه، من توصيف «رأس الأفعى» الذي يحبّ قادة الاحتلال وإعلامه وصفه به؟