مع انطلاق عملية «طوفان الأقصى»، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد وصور من الوثائقي الإسرائيلي «الطنطورة» (2022) الذي قدّم فيه المخرج الصهيوني آلون شفارتز صورةً حقيقية و«صادقة» للمقاتلين في جيش الاحتلال الصهيوني، وتحديداً في لواء «إسكندرون» المعروف. ارتكب قتلة هذا اللواء إحدى أفظع الجرائم البشرية، إذ أجهزوا على قرابة 500 فلسطيني، بين رجال ونساء وأطفال جمعوهم في أماكن متفرّقة وقتلوهم بأبشع الطرق بعدما مارسوا انتقاماتٍ وحشية بحقّهم كاغتصاب قصّر، وحرق بالنار، وحبس وإطلاق رصاصٍ مباشرٍ وتقطيع. كل هذه الجمل انتشرت ضمن فيديو تمت مشاركته مع بداية عملية «طوفان الأقصى». أتت هذه المشاركة كمحاولة للجم اندفاع ما يمكن اعتباره «طابوراً خامساً» بين الجماهير العربية. طابورٌ يعتبر أنّ أي عمليةٍ للمقاومة في وجه الصهاينة «بلا جدوى» وأن كيان الاحتلال «دولة حضارية ومسالمة». كل هذا الكلام دحضته جمل وكلمات القتلة الصهاينة المعترفين بجرائمهم علانية في الشريط الوثائقي. حدثت جريمة مجزرة الطنطورة في قرية الطنطورة في عام 1948، وقد استند الوثائقي إلى مقابلاتٍ شتى أجراها صانع العمل مع 135 شاهداً من اليهود والعرب على ما حدث.

من الوثائقي


من الفيلم: جنود صهاينة في عام 1948

يشرح أحد القتلة الذي يظهر وجهه على الشاشة، أنه «شاهد بأم العين» جرائم لا تعد ولا تحصى. يقول علانية في الشريط: «اغتصب أحد الجنود فتاة تبلغ 16 عاماً». يقول الجملة كما لو أنه يتحدث عن أكل قطعةٍ من الحلوى. يبتسم، يتحدث بهدوء، كأنّه أمرٌ اعتيادي بالنسبة إلى الصهاينة. وبدلاً من محاكمة هؤلاء المجرمين، هم يعيشون اليوم حياةً مرفّهة في أحد الكيبوتسات أو «المغتصبات» المقامة على أراضٍ فلسطينية. «أخذ الجنود قاذفات اللهب في أيديهم وطاردوا القرويين وأشعلوا النار فيهم». يكمل الرجل حديثه «الشيق» كما لو أننا أمام فيلم «التطهير» (The purge). يطل بعد ذلك شخصٌ آخر، يبدو «طيباً»، لكنه يبدأ حديثه بالقول: «لم آخذ أسرى، قتلتُ الجميع؛ الأشخاص الذين رفعوا أيديهم في الحرب لم آخذهم كأسرى حرب». لا تبدو عليه أي علامات ندم، لكنه سرعان ما يستدرك قائلاً: «هذا الأمر أثّر عليّ نفسياً، لم أتمكن من تخطيه حتى اليوم». هنا يقف الضحايا وأهل الضحايا أمام معضلةٍ أخلاقيةٍ ووجودية: هل هناك تعاطفٌ مع القاتل باختياره؟ كان هؤلاء القتلة قتلة باختيارهم، هم أرادوا ذلك، فعلوا ذلك، والآن يتباكون لأنهم «يعانون». يعود القاتل نفسه للحديث عن جرائمه بفخر واضح: «في تلك الأيام، إذا رأيت حتى طلاب المدارس يرفعون أيديهم، كنت أقتلهم». يسأله المخرج هنا: «كم قتلت؟ كم عدد من قتلت؟» ليجيبه بضحكةٍ خافتة: «لا أعرف، لم أعدهم، لكن في مخزني كانت هناك 250 رصاصة، أطلقت النار وقتلت الجميع».
يعترف أحد القتلة: اغتصب أحد الجنود فتاة تبلغ 16 عاماً


اللافت أنه رغم كل هذه الاعترافات العلنية، لا يزال الكيان العبري يصرّ على نفي حدوثها. أما اللافت أكثر، فهو أنَّ المخرج عينه يقول في أحد حواراته مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» إنه «صهيوني»، مضيفاً: «يعتقد الناس أنني لست كذلك، لكنهم مخطئون. أنا صهيوني أكثر من اليمينيين الذين يريدون الاستيطان في المناطق الفلسطينية. أنا لا أقول أعيدوا العرب إلى الطنطورة واطردوا اليهود. ليس هذا ما أقوله. هذا ليس ما يجب أن يحدث. لستُ مع حق العودة بأي وسيلة. أريد دولة يهودية». هو حتى لا يرى في ما فعله هؤلاء جريمة: «أنا لا أكرههم. هؤلاء الناس مثل أجدادي. لستُ غاضباً منهم… لقد فعلوا أشياء فظيعة. معظمهم لم يمارسوا القتل بأنفسهم، لكنهم رأوا زملاءهم يُقتلون وتغاضوا عن الأمر. هذا هو جوهر كل شيء. لا أحكم عليهم. لقد كانت حرباً. لكن حتى لو قمت بنقل أو تطهير الناس عرقياً من الأرض، وهي أيضاً جريمة حرب – كان يجب القيام بها – لا تذهب وتقتل الناس بعد المعركة». انتشار هذا النوع من الفيديوات على قسوتها ضروري للتذكير بالصراع وتفاصيله وتاريخه ربما لأجيالٍ لم ترَ من العدو الصهيوني إلا ما يقدمه الإعلام الكلاسيكي الداعم لكيان الاحتلال، والسوشال ميديا التي تحارب أي محتوى مقاوم بكل الوسائل.