- آلو. صباح الخير. أنت نائم إلى الآن؟ يجب أن تستفيق. لقد عبر الغزّيون إلى إسرائيل وأسروا العشرات من الصهاينة.- نعم... ماذا قلت؟ (لحظة صمت) مَن عبر؟ وإلى ماذا وكيف؟ ماذا تقول؟
تكرّرت هذه المحادثة إجمالاً مع كلّ من أُخبر أنّ الغزّيين مرّوا، صبيحة السبت في السابع من تشرين الأول 2023، إلى مستوطنات «الغلاف»، وأثخنوا في العدو، وأسروا عدداً لم يحدد من الجنود والضباط المسلّحين، وعدداً آخر من المستوطنين.
من جهتنا كعرب، فاجأ «طوفان الأقصى»، الذي بدا فوق مستوى الإدراك، الجميع. ربّما يمكن فقط للمقاومين أن يعرفوا ماذا يصير وكيف، لكن المتابع العادي قد لا يستوعب ما حدث.
كانت العملية من الإتقان إلى درجة بدت معها بسيطة جدّاً وبديهية جدّاً: أكوام القتلى وعشرات الأسرى من الضباط والجنود المستسلمين أمام هول ما رأوه، كانت الدهشة بادية عليهم وهم يطيلون التحديق في من يخاطبهم، ليتحوّل التحديق والرغبة في الفهم إلى نظرة رعب وتذلّل.
كان الحدث أكبر من الاستيعاب فعلاً، وسيل المعلومات المتدفّق لا ينتهي. يجب أن تكون بحراً فعلاً لتستوعب الطوفان. غالبني الفضول لأتطلّع إلى وجهة نظر الروس. كان كلام ألكسندر دوغين محبطاً، قال إنهم لم يحسموا أمرهم في روسيا إن كانوا معنا أم مع الصهاينة، وإن إفناءنا لهم (أي الصهاينة) أو العكس هو أمر خارج التصوّر. عرفتُ حينها الشرط الآخر لاستيعاب الطوفان: أن تكون عربياً.
طوفان من المشاعر الملتهبة التي غمرت كلّ شيء، على جبهتنا وفي صفّنا، محطّمةً جدران المعقول والمُدرك.
تمّ تضييق حدود المعقول بعد حرب حزيران 1967. كانت طائرة المشير في السماء وقتَ بدأت غارات الصهاينة على المطارات. شلّ الهجوم الصهيوني قدرات المشير والقيادة المصرية على التفكير، ومرّ المصريون بحالة عجز مخيفة حسمت الحرب بسرعة. ووجد حزب الاستسلام والواقعية العربية إكسير الحياة له في هذه الحرب، ليهندس المجتمع والثقافة على ضوء الهزيمة والصدمة والرعب الذي يشلّ التفكير.
مرّ العرب إلى الشاطئ الآخر من القنال في تشرين الأول 1973، وأخرجوا الصهاينة والمارينز والفرنسيين من بيروت، ثمّ أخرجوهم من الشريط الحدودي المحتلّ عام 2000 بلا قيد أو شرط. وطُرح عندها السؤال الكبير: هل يمكن أن نفعلها؟ هل يمكن أن نحرّر فلسطين، كلّ فلسطين من النهر إلى البحر؟ هل يصير هذا معقولاً، أي أمراً قابلاً للتحقّق، أمراً يمكن فعله؟
تواصلت الجولات بعد ذلك: حيفا وما بعد حيفا، تدمير «الميركافا» في وادي الحجير في عام 2006، وتدمير وحدات عسكرية كاملة في الجنوب. ضُربت تل أبيب بالصواريخ للمرة الأولى في عام 2012، ودخل جيش الاحتلال غزة للمرة الأخيرة في عام 2014، حيث ذاق الويل.
وبدأنا نسأل هل هذا أقصى ما لدينا؟ لكن الزمان خير مجيب؛ شلّت الصدمة والرعب قادة الكيان في «سيف القدس»، رأينا وجوههم الواجمة، ونيرانَ جهنّم مصبوبة على تل أبيب. بدأنا نقلب الآية: إن العالم الفاجر بدأ يذوق بأسنا. صار اللامعقول معقولاً. أعادت المقاومة تعريف حدود العقل في كلّ مرة. ويوم السبت، حطّمت كل ما ترسّب من فكرتنا الأولى عن الكيان.
لقد أعادت المقاومة وضع حدود جديدة للعقلانية العربية، وأخرجتها نهائياً من عقلانية الاستسلام وتقبّل الهزيمة. سيكنس الطوفان درن الصهيونية من الأرض ومن عقولنا.

* كاتب عربي من تونس