على امتداد سنوات طويلة، منذ احتلال فلسطين ووقوع النكبة قبل 75 عاماً، اعتاد الأجداد والآباء، والأبناء أيضاً حتى وقت قريب في هذه المنطقة، على النظر إلى ما يعانيه الشعب الفلسطيني من مأساة وظلم لا ينتهيان، بعين الحزن والشفقة. صحيح أن أبناء هذا الجيل، ومعهم شباب فلسطين الذين عبروا حدود قطاع غزة قبل يومين، فاتحين محرّرين، ليسوا من جيل النكبة، ولا «النكسة»، ولا حتى الانتفاضة الأولى... وصحيح أنهم عاشوا نصف أعمارنا ربّما، في «زمن الانتصارات»، الذي بدأ مع تحرير جنوب لبنان عام 2000، وتعمّق مع تحرير قطاع غزة عام 2005، والانتصار الكبير والمدوّي للمقاومة اللبنانية في حرب تموز 2006، وحروب غزة المتتالية، وصولاً إلى حرب «سيف القدس»، والتحوّل الذي أحدثته في كل مسار النضال الفلسطيني ضدّ العدو الإسرائيلي، إلا أن كل ما شهدوه من انتصارات وتثبيت معادلات ردع، واسترجاع أسرى، وتنفيذ عمليات نوعية، لم يستطيعوا معه توقّع المشهد المقبل، ولو للحظة واحدة، قبل عملية «طوفان الأقصى»، العبقرية والشجاعة إلى أبعد حدّ.يقول أهل الجنديّة والعسكر، إن أهمّ ما يتمتّع به القائد العسكري الناجح، هو «الخيال». والخيال هنا، لا يصحّ أن يكون مُقيّداً بحدود الواقعية والقدرة، بل يجب أن يكون مدفوعاً بدافع الإرادة، والإيمان العميق. فالواقع والقدرة يتغيّران ويتشكّلان وفق ما يقتضيه خيال القائد المخطّط، وما تحتاج إليه المهمّة المطلوبة. صحيح أن المقاومين الفلسطينيين، على امتداد السنوات الطويلة، تميّزوا بالقدرة على ابتداع الأساليب والخطط في مواجهة العدو، إلا أن ما جرى أول من أمس، بدا قفزة هائلة في هذا المجال، ورفع سقف التوقّعات لدى قوى المقاومة، داخل فلسطين وخارجها، إلى حدّ أعلى يقترب من تحقيق المعجزات.
في المقابل، يقف على الحدود مع قطاع غزة، جيش، كان، إلى ما قبل «طوفان الأقصى»، يُعدّ أقوى جيش في المنطقة، ومن أقوى جيوش العالم، رغم صغر حجمه مقارنة بجيوش دول كبرى يبلغ تعداد سكّانها أضعاف ما يبلغه عدد المستوطنين الصهاينة في أرض فلسطين المحتلة. يفصل بين مواقع هذا الجيش الحدودية، وأراضي قطاع غزة المحرّرة، سياج حدودي متطوّر ومُحكم، و«ذكي»، يمتدّ على كامل الحدود ولا ينقطع في أي نقطة منها. وخلف هذا السياج، كاميرات متطوّرة وأجهزة مراقبة ورصد واستطلاع، ثابتة ومتحرّكة، إضافة إلى مُسيّرات استطلاعية صغيرة وكبيرة، وبمهامّ وأدوار مختلفة، تراقب حتى النائمين في بيوتهم. لا بل ثمّة تجريفات وتحصينات اصطنعها وبناها العدو، وجعل معها عبور الآليات والدرّاجات، وحتى المشاة، مكشوفاً ومعرّضاً للاستهداف بسهولة بالغة. أما في المواقع والثكنات والمعسكرات، التابعة لـ«فرقة غزة»، التي تلفّ بمواقعها وقواتها كامل القطاع، فيخدم جنود من مختلف الوحدات، والكثير منهم نخبويون، ذوو تدريب وتجهيز عاليين، وبقيادة ضباط متميّزين، تمرّسوا في القتال لسنوات طويلة.

ما الذي حدث ذلك الصباح؟
فضلاً عن الفشل الاستخباري والأمني الذريع، وسقوط أسطورة أن «إسرائيل تعرف كل شيء»، وأن عملاءها وتقنيّاتها ووسائل تجسّسها يمنحونها موقفاً متقدّماً على كل أعدائها في كل مرة... اندفع مقاتلو «كتائب القسام»، براً وبحراً وجواً، وعبروا الخطّ الحدودي، وانغمسوا بين الجنود والمواقع والمعسكرات المليئة بالجنود والأسلحة والدبابات ومختلف وسائل القتال، في جبهة نشِطة منذ سنوات طويلة، ويُفترض أنها مستعدّة لخوض القتال في أيّ لحظة. لكن، ممّا ظهر إلى الآن، وممّا أظهرته مقاطع الفيديو ومجريات المعركة في ساعاتها الأولى، أن مقاومي «القسّام»، لم يواجهوا مقاومةً جدّية من الجنود الإسرائيليين، الذين إما قُتلوا في مهاجعهم، أو بينما هم يهمّون برفع أسلحتهم، وقليل جداً منهم من قاتل باحترافية وشجاعة، أو شردوا هاربين في الحقول الواسعة وفي اتجاه أقرب مستوطنة، ليحتموا في البيوت وبين المستوطنين. كان يمكن للمقاومين رؤية الجنود وهم يفرّون في الحقول، من دون أن يلقوا ولو نظرة واحدة إلى ما خلفهم. وما حال دون مقتل المزيد منهم، هو أنهم كانوا أكثر مما يستطيعون صيده في وقت قصير. وعلى أقلّ تقدير، ثمّة فرقة كاملة في الجيش الإسرائيلي، وهي إحدى أهمّ الفرق العسكرية، في جبهة حسّاسة ونشِطة على الدوام، بلواءَيها الشمالي والجنوبي، ومواقعها ومحارسها وحواجزها، تبخّرت، وانهارت تماماً في الساعات الأولى من عملية «طوفان الأقصى». واليوم، بعد 48 ساعة فقط على العملية، يمكن القول إن هذه الفرقة لم تعد حاضرة فعلياً وعملياتياً، في المشهد الميداني.

تعزيز الموقف الإستراتيجي وعجز في التكتيك
تقف القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، مصدومة أمام هول ما استفاقت عليه بعد عدّة ساعات من انطلاق العملية: جلسات متتالية لـ«الكابينت»، وتقييمات أمنية لا تتوقّف، واتصالات سياسية داخلية وخارجية، وحصد دعم دولي منقطع النظير، وطلب مساعدات عسكرية وأمنية ومالية، وتلبية ذلك من قبل واشنطن على الفور... عزّزت إسرائيل موقفها الإستراتيجي، وحصلت على الدعم السياسي الكافي، وها هي واشنطن تحرّك أساطيلها وحاملات طائراتها ومدمّراتها في اتجاه شرق المتوسّط، دعماً للكيان الإسرائيلي، وردعاً لأعداء إسرائيل في المنطقة، ولمنعهم من دخول المعركة في لحظة ما. ولكن... ما العمل في غزة وغلافها؟ إلى لحظة كتابة هذا النصّ، كان لا يزال المقاومون المتحصّنون في مستوطنات «غلاف غزة»، يخوضون اشتباكات غير منقطعة مع قوات العدو، بروح وعزيمة استشهاديتيْن. وليس هذا فقط، بل إن «كتائب القسّام» أعلنت تمكّنها من تبديل بعض مجموعاتها العاملة في «الغلاف»، وإرسال مجموعات جديدة للاشتباك. كذلك، تداولت وسائل الإعلام الإسرائيلية، مساء أمس، أن المستوى الأمني يعتقد أن مزيداً من مجموعات المقاومة لا تزال تتجاوز الحدود، وتدخل إلى المستوطنات. وعليه، لا يزال العدو عالقاً في المرحلة الأولى من خطّة حربه، والتي يصوّرها وكأنها حرب يوم الأخير قبل زوال إسرائيل، وهي مرحلة «تنظيف غلاف غزة، ومنع تسلل مزيد من المقاومين إلى المستوطنات»، علماً أن العدو، حتى هذه اللحظة، لم يتمكّن بعد من إحصاء قتلاه وأسراه ومفقوديه، وهو كلّما تقدّم في مستوطنات «الغلاف» أكثر، وجد مَقاتِلَ جديدة، وجثثاً مُكوّمة.
بالنتيجة، يجتمع العالم على دعم إسرائيل ورعايتها، وتقديم كل الدعم اللازم لها، وترفع لندن العلم الإسرائيلي على كل إدارات الدولة الرسمية، وتقرع باريس رؤوس كل من تستطيع الاتصال بهم طلباً للتهدئة، وعشرات الدول تتبعها على ذلك، ويوعز «البنتاغون» إلى المصانع الأميركية بالشروع فوراً في صناعة صواريخ اعتراضية لصالح «القبّة الحديدية» الإسرائيلية، خوفاً من نقص الذخائر (أين القبّة بالمناسبة؟)، وتحشد الولايات المتحدة قواتها الجوية والبحرية... وإسرائيل عالقة: كم مقاوماً لا يزال في «غلاف غزة»؟ هل يدخل المزيد؟ كم دورة بعد سيدور عدّاد القتلى؟ ما العمل؟