في الحديث عن قائد كبير كالراحل أحمد جبريل (والد الشهيد جهاد جبريل)، تقفز إلى الذاكرة محطّات في رحلة المجاهد المميّز الذي حُفر اسمه في ذهني، مذْ سمعْت به لأوّل مرّة في أواسط ستينيات القرن الماضي من زملاء لي في الجامعة الأميركية، كانوا يشكّلون تنظيماً فلسطينياً واسع الانتشار اسمه «جبهة التحرير الفلسطينية»، وسمعت يومها أن من بين قادته الأبرز ضابطاً في سلاح الهندسة يدعى أحمد جبريل، وهو خبير في التخطيط لعمليات نوعية كانت تهزّ كيان العدو.
(أ ف ب )

مع الأيام، بدأ اسم أحمد جبريل يلمع في سماء المقاومة الفلسطينية، وبدأنا نسمع عن عمليات فدائية نوعية استخدم فيها هذا القائد علومه العسكرية ليرتقي بها على كلّ المستويات، ولعلّ الآلاف من الأسرى المحررين يذكرون دوره مع رفاقه في «الجبهة الشعبية - القيادة العامة» في عمليتَي تبادل للإفراج عنهم كان الشيخ المجاهد الشهيد أحمد ياسين في واحدة منهما. وكان يرافق هذا الإسهامَ النوعي في الكفاح المسلح الفلسطيني، حرصٌ مبدئي حادّ لدى هذا القائد على التمسّك بلاءات عبد الناصر: «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف» مع الكيان الصهيوني، وهو موقف لم يساوم أبو جهاد يوماً عليه أو يهادن في شأنه.
لكن ما شدّني إلى الرجل الكبير، بشكل خاص، في ما بعد، أيّامٌ أمضيناها في مبنى في شارع فرن الحطب في المصيطبة في بيروت، حيث كان يقطن رفيقنا الأستاذ بشارة مرهج، وحيث كان يقع مقابله المركز الرئيس لـ»تجمّع اللجان والروابط الشعبية» آنذاك. يومها، جاء أبو جهاد إلى منزل رفيقه الصديق الراحل فضل شرورو في البناية ذاتها، وحاول أن يبقي وجوده سرّياً كي لا يعرّض المبنى وساكنيه لخطر القصف الإسرائيلي، الذي لم يكن يوفّر أيّ مبنى أو مكتب يتواجد فيه قائد فلسطيني كبير إلا ويقصفه من دون رحمة، وهذا ما حصل مع بناية عكر في الصنائع، حيث قصفها طيران العدو بقنبلة فراغية أدّت إلى هدم المبنى بكامله واستشهاد العشرات من ساكنيه بعد أن خرج الرئيس الشهيد ياسر عرفات منه قبل القصف بلحظات.
كان الراحل الكبير، رحمه الله، قد ترك مشفاه في يوغسلافيا حيث عولج من مرض في القلب، على ما أذكر، وحضر إلى بيروت ليشارك في ملحمة الدفاع عنها في وجه الغزو الإسرائيلي والحصار الطويل في مثل هذه الأيام عام 1982. وفي الأوقات القليلة التي كنّا نلتقي بها فيها هذا الرجل، كنّا نلمس فيه صلابة استثنائية وعزيمة لم يستطع المرض أن يؤثر فيهما، ورؤية واضحة لحركة المعركة، ومواكبة دقيقة لكلّ تفصيل من تفاصيلها، وثقة بقدرة المقاومتَين الفلسطينية واللبنانية، ومعهما الجيش العربي السوري والمتطوعون العرب، على الصمود رغم التفاوت الكبير في موازين القوى. سألته يومها كيف تترك المستشفى في يوغسلافيا وتأتي إلى بيروت المحاصَرة وأنت في هذه الحالة الصحية الدقيقة؟ كان جوابه واضحاً: أُفضّل ألف مرّة أن أستشهد مع رفاقي في معركة الدفاع عن الثورة الفلسطينية على أن أموت على سريري في مستشفى بعيداً عن أرض المعركة. الصلابة عينها، والعزيمة نفسها، رأيناهما حين زرناه في دمشق نعزّيه بنجله الشهيد جهاد الذي استهدفه الموساد الصهيوني في بيروت، بسبب دوره في تزويد الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) بالسلاح. كان في عين القائد الكبير دمعة، لكن إلى جانبها تصميم على مواصلة الكفاح حتى النفس الأخير.
قد يختلف البعض الفلسطيني مع أبي جهاد في هذا الموقف أو الاجتهاد أو ذاك، لكنّ الكلّ الفلسطيني لا يختلف على نقائه وشجاعته ومبدئيّته وصدقه واستعداده الكبير للتضحية دفاعاً عن فلسطين ولبنان وسوريا، كما ظهر خلال الحرب الكونية عليها ولا سيّما في مخيم اليرموك.
رحمه الله، وألهم عائلته ورفاقه وشعبه جميل الصبر والسلوان.