نابلس | يخوض الفلسطينيون في الضفة المحتلة حرباً تختلف عن تلك التي اضطرت السلطة الفلسطينية بسببها إلى فرض «حالة طوارئ» (لمواجهة فيروس كورونا)، دون أحداث أخرى أخطر كانت تستحق مثل هذه الحالة. رغم إجراءات الوقاية من الفيروس، لم يستطع أهالي بلدة بيتا، جنوبي نابلس (شمال الضفة) البقاء في منازلهم أمام «فيروس الاستيطان»، فهم يبيتون في العراء على قمة جبل العرمة لحمايته من مشروع استيطاني. ساعات بعد بدء «السهرة» اليومية أمس، التي تعاهد شبان بيتا منذ عشرة أيام على التناوب فيها لحراسة الجبل، حتى اقتحمت أكثر من 50 آلية إسرائيلية المنطقة، إلى جانب عشرات المستوطنين، لتندلع اشتباكات عنيفة استشهد على إثرها الفتى محمد حمايل (15 عاماً)، وأصيب عشرات بجروح. الاشتباكات، التي لم تنتهِ إلا بعد ساعات الظهر، استخدم فيها جنود الاحتلال، من وراء الأقنعة الطبية، الرصاص الحي، وقنابل الغاز، قبل أن يتوزّعوا على محاور، محيطين الجبل من اتجاهاته الأربعة، فيما كانت الجرّافات العسكرية تزيل السواتر التي وضعها الشبّان لإعاقة الجنود.معركة أهالي بيتا لحماية الجبل ليست جديدة، بل مستمرة منذ 1988 عندما أفشل الأهالي محاولات المستوطنين الاستيلاء على المنطقة. برغم أن المحاولات لم تتوقف يوماً، لاحظ الأهالي ازياد وتيرتها بعد إعلان «صفقة القرن». الجبل، الواقع إلى الشرق من البلدة، وعلى ارتفاع 850 متراً، اكتسب أهمية استراتيجية كونه يطل على مدينة السلط الأردنية شرقاً، وعلى شاطئ البحر المتوسط غرباً، وعلى قرى جنوب وشرق نابلس. لذلك استحوذ على اهتمام المشروع الاستيطاني، لأن السيطرة على مساحته الكبيرة (250 ألف متر مربع) ستؤسس لتوسيع رقعة المستوطنات القريبة مثل «ايتمار»، ولإنشاء مشاريع سياحية في موقع يضم بقايا قلاع من فترات أقدم ما اكتشف فيها يعود إلى العصر البرونزي المتوسط.
كان الجنود الإسرائيليون يطلقون النار وهم يلبسون الكمامات الطبية!


«لا مستوطنات على أراضينا»، هذه عقيدة متوارثة في بيتا، فتمر عقود وتتبدل أجيال لكن عشرات الشبّان يظلون متأهبين للتصدي للمستوطنين. وفي شباط/ فبراير 2018، أرغم أهالي البلدة وشبابها جنود العدو ومستوطنيه على إزالة بؤرة «أفيتار» بعد أقل من شهر على إقامتها. لكن منذ أسابيع تحوّلت قمة العُرمة إلى ساحة كر وفر، فالمعركة على الأرض ليست في أحقية ملكيتها فقط، بل تمتد إلى التفاصيل. بدأت المعركة الجديدة، التي سماها الشباب «سارية العلم»، مع اقتحام مستوطنين الجبل بحماية الجيش. عقب تجمهر الأهالي كالمعتاد، دشّنوا سارية مرتفعة تحمل العلم الفلسطيني، ما أثار غضب المستوطنات المُطلة عليه، فاندفع عشرات الجنود إلى إزالة السارية. وفي كل مرة يتمكنون فيها من ذلك، تندلع مواجهات واسعة ويُعيد الشبّان رفع العلم. صار شباب بيتا «حماة الجبل» لأن المنطقة مُحرّمة على السلطة كونها مصنفة «ج» وفق اتفاق أوسلو. أما المستوطنون، فلم يستطيعوا بلع لسانهم أمام فشل جيشهم في اجتثاث السارية عن الجبل، ليزيلوه لاحقاً بحماية عسكرية ويرفعوا «علم النجمة السداسية الزرقاء». الأخير لم يقف سوى ساعات بعدما أصّر شبّان على المخاطرة بحياتهم وتصوير أنفسهم وهم يدوسون العلم ويرفعون الفلسطيني بدلاً منه، ثم أدّوا التحية العسكرية في إعلان للسيادة على الجبل المنهوب الذي تخلت عنه «أوسلو». مع ذلك، تدخلت «هيئة مقاومة الجدار والاستيطان» التابعة للسلطة ووقفت بجانب الأهالي. وقبل مدة، تحوّلت بيتا إلى عاصمة الزجاجات الحارقة. فالجرّافة التي يحتمي بها الجنود من أمطار الحجارة تحوّلت إلى كتلة لهب مشتعلة، في حين أن عشرات الشبّان يتسلقون آليات العدو، في مشهد يعيد الذاكرة إلى الانتفاضتين حينما كان الأطفال يتسلقون دبابات «الميركافا».
يقول أحد سكان بيتا عقب جنازة الشهيد حمايل: «هذه البلدة لم تقبل الهزيمة سابقاً، ولن تقبلها اليوم. لن يُسجّل التاريخ أن بيتا تراجعت وأصبح على أراضيها مستوطنات»، ويضيف: «هناك تجارب ناجحة في البداية للمقاومة الشعبية، لكن أزالها العدو وأحبطها، وهذا المشهد لا يمكن أن يكون في بيتا نهائياً». عقب انتهاء جنازة حمايل، لم يحدث ما توقعه الاحتلال الذي استنفر أمام مدخل البلدة، إذ لم يتوجه الشبّان للمواجهات هناك، بل عادوا إلى إكمال مشوار الشهيد، فرابط المئات على العُرمة وعيونهم ترقب العلم الفلسطيني على السارية.