تتكرّر الاعتداءات في الحيّ، وتتنوّع. الهدف في النهاية هو وضع سكّانه أمام خيارٍ لا مفرّ منه: إخلاء بيوتهم التي يعيشون فيها منذ عشرات السنين؛ والسبب إطلالة الحيّ على المسجد الأقصى، وحقيقة كونه أقرب نقطة إليه، و«البوابة العليا» لـ«مدينة الأنفاق» التي تُحفر بكدٍّ تحته. يلفت الرجبي إلى أن «بيوتنا تصدّعت بفعل أعمال الحفر، ومنها بيوت باتت آيلة إلى السقوط. لقد خبرنا هذا الأمر، وبتنا نميّز الأصوات بحسب نوع الماكينات التي تحفر عميقاً في الأرض باتجاه المسجد». عمليات تصديعٍ تُرافقها مساعٍ حثيثة لتهجير أهالي الحيّ، تَمثّل آخر فصولها في أوامر الإخلاء التي تلقّاها شقيق الرجبي، ناصر، قبل أيام، حيث استجابت محكمة «الصلح» الإسرائيلية لادّعاءات «عطيرت كوهانيم» الاستيطانية، مُقرِّرةً تهجير أفراد العائلة البالغ عددهم 16 شخصاً، وإخلاء منازلهم في حيّ بطن الهوى. القرار الذي يأتي بعد عام على رفض المحكمة استئنافاً تَقدّم به أصحاب الأرض الفلسطينيون ضدّ الجمعية التي ادّعت أحقيّتها بالأرض، ليس إلا بداية لتهجير 1200 فلسطيني آخرين من بيوتهم. هؤلاء يحملون الهوية الإسرائيلية الخاصة بأهل القدس، ولكنهم لا يُعدّون «مواطنين» كفلسطينيّي الـ48، إذ أنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية. كما أنهم لا يحملون جواز سفر السلطة الفلسطينية، وإنما وثيقة عبور. «نحن غير معترف فينا لا من هذول ولا من هذول»، يوضح الرجبي.
في حال رفضت «العليا» استئناف العائلات ستتوجّه لجنة الحيّ إلى التحكيم الدولي
بدأت القصة، بحسب الرجل المُهدّد بيته بالإخلاء، قبل بضع سنوات، عندما ادّعت الجمعية الاستيطانية الحاصلة منذ عام 2001 على حق إدارة «أملاك الجمعية اليهودية» (أو ما يُعرف بـ«الأوقاف اليهودية المقدسة») أن «الأرض التي أنشئت عليها بيوت المقدسيّين في الحيّ هي أراضٍ تعود ملكيتها إلى يهود ذوي أصول يمنية، حصلوا في نهاية القرن التاسع عشر، إبّان الحكم العثماني، على هذه الأرض ومُنحوا فيها حق السكن. ولكن نظراً إلى الظروف الأمنية التي سادت بعد عشرات السنوات قبل حرب الاستقلال (نكبة الشعب الفلسطيني)، أُمر هؤلاء اليهود بترك منازلهم خشية التعرّض لأعمال عنفية. وبعد ذلك هُدمت منازلهم، وأقام الفلسطينيون بيوتهم فوقها». هذه الرواية يفنّدها سكان الحيّ بالأدلة القاطعة؛ فهم يملكون أصولاً عقارية ومستندات تفيد بشرائهم تلك الممتلكات منذ عشرات السنين. ليس هذا فحسب، بل يشير الرجبي إلى أن «لجنة الحيّ استقدمت مسّاحين أقرّوا بأنه لا وجود لأيّ دليل على أن العقارات والأملاك التي تنوي سلطات الاحتلال إخلاءها تعود إلى ملكية يهودية، ولم يجدوا دليلاً على أنه كانت هناك بيوت هُدمت، ثم أُعيد البناء فوق أنقاضها». ويضيف أنه «في زمن السلطة العثمانية، أُعطي يهود هاجروا من اليمن مساحة من الأرض ليسكنوا فيها نظراً لظروفهم الحياتية وفقرهم المدقع، وبعدما سكنوها لعشرات السنين بدأت ثورة البراق، ومن بعدها النكبة، فقام هؤلاء ببيع الأرض والبيوت لأجدادنا وآبائنا بسبب أنهم لم يريدوا بيعها إلا لفلسطينيين، فهؤلاء أحسنوا معاملتهم وجيرتهم»، وبذلك «باتت هذه البيوت ملكاً لنا ولا يحق لأيٍّ كان أن يُخرجنا منها لا اليوم ولا في أيّ وقت آخر».
المحكمة الإسرائيلية أمهلت عائلة الرجبي حتى حزيران/ يونيو المقبل لإخلاء عمارتهم المكوّنة من ثلاث طبقات، والتي يسكنها 16 شخصاً بينهم مسنّون وأطفال وفتاة من ذوي الإعاقة. لا خيار لهؤلاء سوى أن يقاتلوا ولو بلحمهم الحيّ، والاستسلام في معركة الوجود هذه غير وارد عندهم، إذ كيف يمكن لِمَن انصهر لحمه بحجارة تلك البيوت أن يتركها كرمى للغرباء؟ يؤكد الرجبي أنه «في حال رفضت جميع المحاكم الإسرائيلية الاستئنافات التي سنقدّمها، بحق الأقدميّة، وبحق الحماية كوننا نسكن هنا منذ عشرات السنين، وفي حال وصل الأمر إلى المحكمة العليا ورفضت هذه الأخيرة الاستئناف أيضاً، فنحن سنتوجّه إلى التحكيم الدولي. والسبب أن هذه ليست قضية فردية، بل هذا تهجير جماعي يطاول 1200 فلسطيني».
مخطّط إفراغ حيّ بطن الهوى من أهله الفلسطينيين هو إذاً جزء من المشاريع الإسرائيلية الرامية إلى إحكام السيطرة على الحوض التاريخي في المدينة، التي يُدفن تراثها عميقاً تحت الأرض مع الطبقات التاريخية للحضارات التي سكنتها، فيما يجري تبديل وجهها فوق الأرض، مرّة بسلب العقارات بالقوة، وأخرى بتسريبها من خلال عملاء ومتواطئين، وثالثة بالإغراءات المالية. وإزاء ذلك كلّه، يعيش أهالي بطن الهوى، وبقية أهالي الجزء الشرقي من القدس في ضائقة المساكن، والميزانيات، والبنى التحتية، والخدمات الاجتماعية، وعنف القانون الإسرائيلي الذي لا يُنصفهم. ومع هذا كلّه، هم مصرّون على التمسّك بحقهم إذ «(أننا) معناش شغل غير القدس ومش راح نتركها»، كما يحسم الرجبي المسألة باختصار.