شهد لبنان، على مدى الشهور الأربعة الماضية، حراكاً نقابياً مطلبياً على مستويات عدّة، كان من بينها الإضراب المفتوح للأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. وسبق ذلك حراك آخر ذو طابع شبابي تطوّر ليصبح شعبياً، طرح شعار «إسقاط النظام الطائفي»، بصفته نظاماً رجعياً أصبح عائقاً أمام التطور، بل ومساهماً في تخلّف البلاد. هناك من دون شك رابط بين تخلّف الإنتاج وأزمة الجامعة والدور الذي تلعبه الطبقة الحاكمة في هذا الإطار.
مرّت الجامعة الوطنية، خلال مراحل تطوّرها، بمرحلتين أساسيتين: الأولى تمتدّ من تأسيس الجامعة وحتّى مطلع الستّينيّات، والثانية تمتدّ من مطلع الستّينيّات حتّى يومنا الحاضر.
تزامن نشوء الجامعة، مطلع الخمسينيّات، مع مرحلة تاريخية كان فيها الاقتصاد اللبناني «المتخلّف» (نصفه بالمتخلّف لغلبة قطاع الخدمات فيه، وهذا المصطلح استخدمه مهدي عامل في حديثه عن الاقتصاد اللبناني) في حركة تطوّر صاعدة نسبياً. إذ أدّى جهاز الدولة، بسبب توسّعه وتضخّمه، في تلك المرحلة، بالإضافة إلى تطوّر قطاع الخدمات العامة والخاصة، إلى ازدياد الحاجة إلى ملاكات متوسّطة، فكانت الحاجة الموضوعية لإنشاء الجامعة الوطنية لتأمين تلك الحاجات، خصوصاً بعدما عجزت الجامعات الأجنبية عن توفيرها. بالتالي، بدا وكأن الطبقة المسيطرة، أي البرجوازية «المتخلّفة» أو التابعة (أو الكولونيالية، كما سماها مهدي عامل) هي التي أوجدت الجامعة اللبنانية بفعل إرادي. إلّا أنّ ذلك التحليل سطحي وغير علمي. فعلى الرغم من أنّ تلك الطبقة استطاعت أن تضع الجامعة في خدمة مصالحها الطبقية، إلا أنّ الجامعة نشأت فعلياً نتيجة للضغط الذي قام به الأساتذة والطلاب، وإلى جانبهم الجماهير الشعبية، التي ادركت أنّ قضية الجامعة هي قضيتها. فقد كانت الفئات الوسطى والفقيرة في لبنان محرومة إلى حدّ كبير من التعليم الجامعي، نتيجة الغلاء في أقساط الجامعات الأجنبية، وفي إطار التطوّر التخلّفي للاقتصاد، كانت الوظيفة بحاجة إلى شهادة، وتلك الشهادة بحاجة إلى جامعة. لذا رأت الفئات الشعبية الفقيرة أنّه لا بدّ من وجود جامعة للفقراء، ومن هنا كانت المعركة المشتركة بين الجماهير الشعبية وطلّابها والأساتذة من جهة، والطبقة البورجوازية المسيطرة التي رضخت أخيراً لإنشاء الجامعة الوطنية، من جهة أخرى.
إلّا أنّ البورجوازية التابعة كانت تسعى، ولا تزال، إلى توجيه الجامعة بحسب مصالحها المرتبطة بمصالح الاستعمار. لذا كان النضال من أجل تأسيس الجامعة يأخذ طابعه التحرّري من الاستعمار بنحو واضح. فكانت نشأة الجامعة نصراً للنضال التحرّري من الاستعمار وأدواته للسيطرة الأيديولوجية، أي الجامعة الأجنبية. ولا تزال تلك المعارك دائرة حتّى اليوم، وفي داخل الجامعة الوطنية نفسها، إذ نسمع الكثير من الأصوات تطالب باعتماد اللغة الأجنبية مثلاً (الفرنسية) لغة أساسية، بحجّة أن اللغة العربية ليست لغة علوم (وكأنّ ابن خلدون كتب بالفرنسية مثلاً). ويؤكّد مهدي عامل أنّ «نضالنا من أجل تكوين جامعة وطنية يبدأ بالضرورة نضالاً على الصعيد الثقافي، ضد
الاستعمار».
في تلك المرحلة من تطوّر الجامعة، ترافقت عملية التطوّر تلك مع تطوّر نسبي في الاقتصاد من جهة، وفي ظلّ التناقض الأساسي المتمثّل بالاستعمار ونتيجة له من جهة اخرى. فأخذت الجامعة في تلك المرحلة تتطوّر وتتوسّع، إن من حيث عدد الطلّاب أو الأساتذة، أو من حيث الكليّات التي كانت تسعى البورجوازية ولا تزال إلى تحجيمها (أي تحديد عدد الاختصاصات) ضمن مصالحها الطبقية.
المرحلة الثانية
قبل البدء بتحليل المرحلة الثانية، سنحدّد الأساس النظري الذي استندنا إليه، وهو أمر ضروري لفهم ما يجري اليوم في الجامعة الوطنية. ونحن لم نعمد إلى تسميتها وطنية إلّا نتيجة للتحديد الذي أوردناه سابقاً عن ضرورة وجود الجامعة الوطنية بما هي منتج للثقافة الوطنية، لمواجهة الثقافة والايديولوجية الاستعمارية التي تبثها وتنتجها الجامعات الاجنبية (وهي خاصة طبعاً)، أي بوصفها أداة للنضال ضد الاستعمار.
هذا الأساس النظري حدّده الشهيد مهدي عامل بنحو واضح، وهو أنّ «ربط الجامعة بالإنتاج الاجتماعي واقع وفعلي، فالمشكلة هي في أنّ هذا الإنتاج بالذات لم يعد يسمح بتطوّر الجامعة، بل صار يعرقل تطوّرها ويشلّه». كان تطوّر الاقتصاد اللبناني يحدث في إطار تطوّر تناقضي، فكانت القطاعات غير المنتجة تتطوّر، في الوقت الذي كانت فيه القطاعات المنتجة تتراجع. لذا ارتبط تطوّر الجامعة بتطوّر القطاعات غير المنتجة، وهو تطوّر سيؤدّي إلى المأزق الذي تعيشه الجامعة مذذاك. وقد بدأ تطوّر الجامعة الصاعد يصطدم بتلك المحدودية للعرض الذي يقدّمه ذلك الاقتصاد. ففي مقابل أعداد كبيرة من المتخرجين الجامعيّين، نجد أنّ فرص العمل لا تتناسب مع معظم الاختصاصات الموجودة. وهنا تطرح بعض النظريات القائلة بفصل العلاقة بين الجامعة والإنتاج الاجتماعي كحل لمشكلة تطوّر الجامعة. إلّا أنّ هذه النظرة خاطئة ومرفوضة بالمطلق، إذ إنّ مشكلة تطوّر الجامعة الوطنية تكمن في أنّ ذلك الإنتاج «المتخلّف» أصبح عائقاً أمام تطوّرها. فالحل يكمن في التغيير الجذري لبنية الإنتاج «المتخلف» وإعادة الاعتبار للقطاعات المنتجة (الزراعة، الصناعة...) والذي تجد فيه الجامعة مكاناً للتطوّر، مبنياً على ربطها بالإنتاج الاجتماعي، وليس العكس. سيدمج ذلك بإنشاء كليّات واختصاصات جديدة في الجامعة التي حرمت من هذا التوسع. فالطبقة البورجوازية المسيطرة تسعى إلى ضرب الجامعة عبر البرامج، من أجل تقليص عدد الكليّات الموجودة اليوم وذلك لصالح بعض الكليّات التي تتناسب ومتطلّبات مصالحها الطبقية، ولمصلحة دكاكينها المسمّاة زوراً بالجامعات الخاصة (وهي بالمناسبة «خاصة» ببعض رموز هذه الطبقة المسيطرة). جامعات تعمل بمناهج لا تصل إلى الحدّ الأدنى من المطلوب، والهدف من خلالها ضرب الثقافة الوطنية، عبر نشر الأيديولوجيا الاستعمارية.
لقد اعتمدت الطبقة المسيطرة على تنفيذ نظام تعليمي جديد، عرف بنظام «L.M.D»، واستورد كالعادة من «الأم الحنون» فرنسا، ودون النظر في الفوارق بين الواقع اللبناني والواقع الفرنسي. إذ يحتاج هذا النظام إلى الكثير من المتطلّبات، وقد بوشر بتطبيقه دون توفير أي منها. فمعظم كليّات الجامعة التي تحتاج إلى مختبرات حديثة، تفتقر إلى تلك التقليدية، بالإضافة إلى غياب مراكز الأبحاث (معهد العلوم الاجتماعية) وكون المباني والقاعات وغيرها غير مجهّزة لمثل هذا المشروع (كليّة الآداب الفرع الأول..). لكن الأهم من ذلك كلّه هو المنطق الذي يحكم هذه الطبقة المسيطرة والقائل بإمكانية حلّ أزمة الجامعة من داخلها ككيان مستقلّ عن الإنتاج الاجتماعي، وبغض النظر عن طبيعة هذا الإنتاج. لذا يطرح الحل على أنّه تغيير في المناهج التعليمية التي وعلى أهميتها وضرورتها تصبح مضيعة للوقت بل مساهمة في ضرب الجامعة وتحجيم دورها. يطرح هذا كلّه إذاً على أنّه الحل الشافي الذي سيعيد دوران عجلة تطوّر الجامعة وتقدّمها. إنّ فلسفة نظام الـ«إل.إم.دي» قائمة على «ربط الاختصاصات بسوق العمل» وهذا طبيعي، إلّا أنّه عند النظر إلى «سوق العمل» في هذا الاقتصاد «المتخلّف» ماذا نجد؟ نجد أنّه على كليّة الآداب مثلاً ــ وخاصة اختصاص كالفلسفة ــ أن تعتزل لأنّ «سوق العمل» في لبنان لا يتناسب معه، وهذا ما حصل فعلياً على مستوى الشهادة العامة الرسمية. فألغي اختصاص كان يدعى «الإنسانيات» (قسم الفلسفة)، وإن وجد فهو لا يشكّل شيئاً يذكر بالنسبة إلى باقي الفروع. وإذا ما أردنا النظر فعلياً إلى كليّة الآداب فإنّنا نجدها «مفرّغة» تماماً من الطلاب اللبنانيين الذين لا تتعدّى نسبتهم 10% بينما 90% هم بأغلبهم سوريون. ويظهر ذلك نتيجة الإبقاء على الإنتاج المتخلّف والدعوة إلى ربط الجامعة به دون العمل على تغيير هذا الإنتاج. كما أنّ الكثير من الكليّات الأخرى تعاني من المشكلة نفسها، ألا وهي الإنتاج المتخلّف أو انحصار سوق العمل بمصالح البورجوازية التابعة. فأين سوق العمل لاختصاص مثل الهندسة الصناعية مثلاً؟ ماذا يفعل متخرّج كليّة العلوم غير التعليم في المدارس (وهي على الأرجح مدارس خاصة تقوم باستغلاله دون رقابة) في ظلّ سوق العمل ذلك؟
هذا من جهة البرامج والأمور المرتبطة بها على المستوى اللوجستي والتي هي ساحة للنضال المشترك بين الأساتذة والطلّاب على حدّ سواء. فكما يعاني الطالب والطالبة من النظام التعليمي، كذلك يعاني الأستاذ، وكما يعاني الطالب والطالبة من عدم توفّر قاعات مجهّزة ومختبرات ومراكز أبحاث، كذلك يعاني الأستاذ. أمّا بالنسبة إلى المعاناة اليومية المرتبطة بالوضع المعيشي الصعب الذي يعانيه الأساتذة والطلّاب أيضاً، فقد حقّق الأساتذة انتصاراً مهمّاً منذ فترة، وهو انتصار أيضاً للجامعة في وجه هذه الطبقة المسيطرة. لكن ما جرى يبقى ناقصاً إذا لم يصر إلى إعادة تفعيل الحراك المطلبي ليشمل مطالب الأساتذة المتعاقدين على مستوى التفرّغ، ويشمل أيضاً مطالب هي حتّى الآن غائبة، لكن يجب العمل على تظهيرها. كذلك يجب أن يشمل عناوين مختلفة تكون أساساً للبرنامج النقابي النضالي من أجل الحفاظ على الجامعة والدفاع عنها، وتطويرها بحيث تصبح مواكبة للتطور العلمي على مستوى العالم ومساهمة فيه (الجيل الاول من اساتذة الجامعة كان بارزاً على المستوى العالمي ومهدي عامل كان واحداً منهم).
إنّها سياسة مبرمجة هادفة لضرب الجامعة الوطنية وضرب دورها التقني والتحرّري. لذلك، هناك مسؤوليّات تقع على عاتق الجميع من أساتذة وطلّاب وقوى وطنية لتوحيد الجهود من أجل النهوض بهذه الجامعة من جديد. ويجب على هذا التحالف الطبقي بالضرورة أن يعي أنّه لا أمل بالخروج من أزمة الجامعة إلّا بتحويل جذري لبنية الإنتاج، بحيث تكون فيه الغلبة للقطاعات المنتجة لا لقطاع الخدمات، ممّا يساهم بالضرورة أيضاً في سقوط الطبقة البورجوازية التابعة ونظامها الرجعي.

* ناشط لبناني