خاص بالموقع - ها قد أمطرت من جديد، فأين هم «الثوار» على النظام الطائفي في لبنان؟ عام، مثير بلا شك، شارف أن يطوى على العالم العربي. شبه انتصارات هنا، نكسات ونكبات هناك، انتفاضات أجهضت قبل أن تبدأ، وثورات أخمدت بالحديد والنار، وعداد الشهداء يكاد لا يتوقف في كل مكان. اجتماعات علنية وسريّة ومؤامرات مكشوفة وأخرى تطهى على نار هادئة. انتهازيون وتجار في سوق المبادئ وزبون مستعد دائماً للدفع. ما دام هناك من يشتري فهناك من يبيع. في ميزان الربح والخسارة، سؤال بسيط، أما الإجابة عنه فليست بالبساطة نفسها: بأي اتجاه يمضي الشعب العربي: إلى الأمام أم عقوداً إلى الوراء؟ وهل نضع تلك الشعوب في ميزان واحد؟ الثابت الوحيد أنّ الجميع شعر باللحظة التاريخية. لحظة لاحت في أفق أحلامنا من جديد ثم ما لبثت أن انقشعت الرؤية وبدت الطريق نحوها محفوفة بالمخاطر. دماء كثيرة ستسيل بعد. لكنّ قطار الثورة مرّ بالبلدان العربية: ركبت بعض الدول القطار وسارعت أخرى إلى اللحاق به، وفات البعض الآخر، لكنّه بالتأكيد لم يمرّ قطّ بلبنان. لماذا لم ينتفض اللبنانيون أو جزء منهم في ثورة عارمة لإسقاط النظام؟ لنتخيّل في لبنان ثورة ليس على شكل التظاهرات الظرفية (والظريفة) والطقسية لإسقاط النظام الطائفي، التي غاب عنها الطائفيون الذين يمثّلون أكثرية هذا الشعب، وانضم إليها للمفارقة طائفيون أقلويون يتلطّون وراء شعارات تطبيق الطائف. مشكلة تلك التظاهرات (من غير المؤكد أنّ هذه التسمية تنطبق عليها) أنّها تعادي، بمكوّنها وشعاراتها، الأكثرية العظمى من الشعب اللبناني، إن بدعوتها إلى العلمانية أو إلى النظام اللاطائفي، وبالتالي فهي لا تتعدى أن تكون أنشطة توعية في الحد الأقصى.
لن نذهب بعيداً في خيالنا فتتراءى لنا جموع غفيرة تتدفق من جميع المناطق اللبنانية في ما يشبه 14 آذار 2005، كما يحلو للبعض تصويرها، على بشاعتها الطائفية والعنصرية المقززة. لن نتخيل أن تعود حشود 14 آذار (جماهير ذلك اليوم وليس الجماعة السياسية الحالية التي يبدو أنّها لم تعد تمثل سوى نفسها) على متن الباصات المدفوعة الأجر وتحت ضغط ترويج إعلامي مهول، وضغط أصحاب العمل، وفرادة تلك اللحظة وما سبقها من اغتيال واحتلال (سوري) وعهود مظلمة. وطبعاً ليس على شكل تظاهرة 8 آذار الاستفزازية. لكن لنتخيّل أنّه من جحر ما، وفي غفلة منا، خرجت جموع لم نرها من قبل، ولم نألف طبيعتها، تتحرك بخطوات متناسقة وواثقة، كأنّها جيش كاسر، لا يظهر الغضب عليها إلا في تجهّمها والقساوة النافرة من عيون أفرادها. حركتها آلية، فتظن للوهلة الأولى أنّها روبوتات خرجت لتوّها من فيلم هوليوودي متوعدة بالثأر. تخيّلوا تلك الجموع ترفع شعارات لقمة العيش وفرص العمل وزيادة الأجور والتعليم والصحة ومحاربة الفساد وإسقاط النظام والثأر منه. هل أحلم؟ أو لنتخيل ثورة غضب شعبية عفوية ووليدة اللحظة. ليس من الصعب رسم ملامح تلك اللحظة، كلحظة إحراق بوعزيزي نفسه. ففي لبنان يموت بوعزيزي كل يوم على باب مستشفى. وكل بضعة أشهر ينتحر آخر أو يُنحر أو ينحر نفسه وعائلته. وكل أسبوع ترمي امرأة أجنبية عاملة في لبنان نفسها من شرفة ما، ولا نعرف كم مرة يضرب خالد سعيد لبناني ما، ويرمى به على حافة إحدى الطرقات. أما الحريات فلا تكاد تنطبق سوى على هوى السياسيين في شتم بعضهم بعضاً واحتقار من يمثّلون، تنبهوا إلى ذلك أو لم يتنبهوا. طبعاً إن ذلك السيناريو، على رغم إمكان حدوثه نظرياً (لا بل ضرورة حدوثه منطقياً)، غير وارد، ولذلك نضعه في سياق الخيال، وذلك لأسباب كثيرة وواضحة، أهمها انجرار الأكثرية الشعبية وراء زعمائها وأحزابها وتمثّلها خير تمثيل بهؤلاء الزعماء وتلك الأحزاب، واستفادتها حتى العظم من وجودهم في السلطة، فلمَ يثورون؟ وعلى من؟
ولكن، بما أننا في إطار الخيال، لنقل إنّ الشعب اللبناني فاجأنا كما فاجأتنا الثورات العربية الأخرى. لنقل إنّنا أخطأنا في الفهم والتحليل، كما أخطأنا من قبل في اتهام الشعب العربي بالاستكانة والهوان والاستسلام والانهزام. لنتخيّل تدفق جماهير غاضبة من الضاحية والطريق الجديدة وبرج حمود وحي السريان والبسطا والبربير وفرن الشباك وعين الرمانة. لنتخيّل دهشتنا. من هم هؤلاء؟ من دفعهم إلى التظاهر؟ إلى من ينتمون؟ هناك من يحوك مؤامرة. تخيّلوا البعض يتساءل إن كان هؤلاء يؤيّدون السلاح وما موقفهم من المحكمة! تخيّلوا أن تعلن عكار تأييدها للثورة وتخرج في بعلبك مسيرات في حقول الحشيش!
هناك وجهة نظر تقول إنّ لبنان نأى بنفسه عن اضطرابات المنطقة تحديداً بسبب نظامه الطائفي، وما يسمّى الديموقراطية التوافقية. أتباع تلك النظرية هم أنفسهم ممن يقرأون في السياسة من وحي هرطقة قوة لبنان في ضعفه، ومنها تتفرع وجهات نظر أخرى تصبّ في المنطق نفسه. ومن تلك النظريات من يروّج أن لبنان لا يحتاج إلى ثورة ما دام متقدماً على المجتمعات العربية الأخرى. هذه النظرة، إذا ما تغاضينا عن وجهها ومنطلقها العنصري، غالباً ما تستشهد بالحريات التي يتمتع بها لبنان كمثال على صحتها، غافلة عن أنّ هذه الحريات هي أسيرة تفسيرات الطوائف ومن هم على رأسها ممن يدَّعون امتلاك مفاتيح الجنة وأنّهم حماة الأخلاق العليا والله وعرض الناس والملكوت، وباسم مقدساتهم يذبحون الحريات في لبنان كل يوم، ويعطّلون كل مشروع قانون يوقظ في بعض النفوس (الحالمة) التوق إلى شكل من أشكال الدولة المدنية. لكن ذلك لا يعني أتباع هذه النظرية، فهؤلاء يعتقدون أنّ الحريات في لبنان بألف خير لولا السلاح المتربّص بأعناقهم. نعم إنّ المقاومة تقيّد الحريات في لبنان، طوراً بداعي المقاومة وغالباً بحجتها، مستقوية لا بسلاحها ولكن بنصرها، وهذا أخطر. إن كان هناك من حريّات في لبنان فهي حرية أن ترفع الأسعار من دون محاسبة، وحرية أن ترمي بعاملات المنازل، أو تدفعهن الى أن يرمين أنفسهن، من على الشرفات، والعمال الأجانب من أسطح المباني، ولا من تحقيق، وحرية أن تزعج الناس في نومهم بسمفونية دراجتك النارية ولا من يتحرك، وأن تطرد من عملك وتتحمل تكاليف الدعوى التي رفعتها على شركتك وتنتظر الفرج الآتي بعد 15 سنة، إن أتى. إن كان للحرية في لبنان من إسهامات فلا تتعدى الإسهام في التحريض الطائفي والإعلانات الترويجية المبتذلة والمهينة للمرأة في أغلب الأحيان. مع ذلك، هذه ليست في أي حال من الأحوال دعوة إلى أي نوع من الرقابة على ألسنة الناس وأفواههم أو على شركات الإعلان والترويج. فالحرية كانت وستبقى سلاحاً ذا حدّين، وسلاحاً بيدك وبيد أعدائك. منطق الرقابة مرفوض بهذا المعنى بكل أشكاله.
هناك وجهة النظر المعاكسة التي ترى أنّ البلدان العربية الأخرى التي شهدت ثورات أو انتفاضات شعبية ــ بغض النظر عن التعريفات وما آلت إليه ــ قد تمكنت من ذلك بسبب دكتاتوريتها الخالصة وغياب تداول السلطة فيها وخنق الحريات السياسية. بعض أتباع هذه النظرية تمنّوا لو كان في لبنان طاغية ليسهُل إسقاطه. آخرون قالوا إنّ في لبنان أكثر من طاغية، ولكل طائفة طاغيتها ــ طغاة مدعومون شعبياً لا شك ــ ولذلك هناك من دعا كل طائفة الى إسقاط طاغيتها، فسقط المشروع في مهده. في الأساس، يميل بعض هؤلاء، وأغلبهم ممن يعرِّفون عن أنفسهم بالعلمانيين، إلى الحذر من انتقاد زعيم طائفة من غير طائفتهم، فتراهم يصبّون جام غضبهم على طائفتهم، على أساس أنه لا أحد سيتهمهم بالطائفية إن فعلوا، وبعضهم تطرف في تلك النظرية الى حدّ التماهي مع أتباع الطائفة الأخرى التي يترددون في انتقادها، فاعتقدوا لوهلة أنّه إذا كنت شيعياً في 14 آذار فأنت تمارس أقصى العلمانية والتمرد على طغيان طائفتك، كذلك إن كنت سنيّاً داعماً للمقاومة أو مسيحياً ارتأى أنّ المسلم الشيعي أكثر انفتاحاً من المسلم السنّي والعكس. العلمانيون في لبنان غير موحّدين حتى على التسمية، وكان ذلك سبباً رئيساً في سقوط مشروع إسقاط النظام الطائفي، طبعاً إضافة إلى بعض الرغبات الفردية في قيادة الجماهير العلمانية الغفيرة (جداً)!
العلمانيون في لبنان منقسمون أيضاً في السياسة، وانقساماتهم تمنعهم من التوحد على أهداف أخرى مشتركة. هم غالباً ما يترددون في إعلان انحيازهم إلى 8 أو 14 آذار، لكنّهم يتماهون مع أحد الفريقين في الموقف من مجمل الأمور مع فوارق بسيطة. في نظرهم، ما يفرّقهم عن هاتين الجبهتين لا يمنعهم من التلاقي مع إحداها، أما ما يجمعهم مع العلمانيين القريبين من الفريق الآخر هوّة يصعب ردمها. فخلافهم مع الطائفيين على مسألة الطائفية ونظام البلد مثلاً، يسهل هضمه أكثر من خلافهم مع علمانيين آخرين على مسألة السلاح. وهدف الدولة المدنية الذي يجمعهما، يمرّ أولاً في الاتفاق على المقاومة والمحكمة والصراع الإقليمي، ولا يغيب عنه النقاش في الفوارق بين قطع الرؤوس في المملكة العربية السعودية وتعذيب المعارضين في إيران، وحياة المرأة في كلا البلدين. هكذا يفضّل شيوعي غيور على المقاومة الجلوس مع كادر في حركة أمل، ولا يطيق رؤية صديقه العلماني الذي انضوى في اليسار الديموقراطي.
من هنا، لا تبدو ثورة الطائفيين واقعية، رغم أنّها الوحيدة الجديرة في الاعتبار إن حصلت، وثورة العلمانيين تبدو مضحكة! وهم جميعهم إما مستفيدون من الوضع الحالي، أو يعتقدون أنّهم مستفيدون. لكن تتراءى لي صور وخيالات عن جموع لم يعد لديها ما تخسره ولا ما تخاف فقدانه، لا يسكنها سوى الغضب، ولا يعنيها منطق الأمور ولا حركة التاريخ، تنفض عنها عفن هؤلاء، تخرج من جحور مظلمة لم نسمع بها، وتزحف كالجراد، فتأتي على الأخضر واليابس. ربما أحلم لكن أحدهم قال لي: اشكري ربك أنّ الثورة لم تمر من هنا، وادعيه ألّا تمر!

* كاتبة لبنانية