كلام جميل ذاك الذي جاء في البيان المشترك الصادر عن مجموعة مثقفين لبنانيين وسوريين («الأخبار»، 14/9/2011)، إلا أنّه كلام خارج الزمان والمكان، خارج الجغرافيا والتاريخ. في الجغرافيا، لا وجود لأماكن اسمها الجولان ومزارع شبعا المحتلة، ولا لسيناء وغزة المحاصرتين والخاضعتين لاحتلال غير مباشر. في الزمان، يجري الحديث عن إسرائيل كأنّها غير موجودة بعد، وكأنّ الأمر يتعلق بسياسات التمدد والغطرسة التي كان المستوطنون يمارسونها قبل قيام الدولة.
أما العلاقة ما بين إسرائيل اليوم والإمبريالية، فإنّ سياسة الأخيرة توصف بـ«بعض الصمت العالمي» الذي يتحمل العرب المسؤولية عنه بسبب «تعفن» أنظمتهم و«غياب نموذج سياسي إيجابي حول إسرائيل»، ربما على شاكلة إسرائيل نفسها، واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط.
وفي وجه فزاعة «تحالف الأقليات»، لم يرَ الموقّعون على البيان بديلاً سوى رفع فزاعة «تحالف الأكثريات»، وكأنّ أبناء الشعوب العربية كلّهم طائفيون أقلّويّون وأكثريون، لا وجود بينهم لمن هو غير طائفي، ولمن هو علماني.
إنّ الجواب عن ذلك السؤال المحوري حول كيفية التخلص من الاستبداد من دون الوقوع في الطائفية، والتخلص من الطائفية من دون الوقوع في الاستبداد، يتصف بصفات «المخمس المردود». وبمعزل عن كلّ ذاك، فكل دولة طائفية هي استبدادية، وكل دولة استبدادية هي دولة فئوية ـــــ طائفياً أو اجتماعياً. الحل هو في إسقاط أنظمة تلك الدول، وبناء أخرى ذات شرعية شعبية في سوريا، حيث لا يعترف «الحزب القائد» بالإرادة الشعبية.
ولعل مفتاح تلك الوسطية السياسية يكمن في الدعوة الى الوسطية الاقتصادية التي تدّعي عدم القبول بـ«سياسة الأبواب المفتوحة من دون ضوابط وسياسة الأبواب المغلقة من دون نوافذ» التي تختصر نفسها بـ«وجوب منح رعاية للشرائح الأكثر حرماناً والمناطق الأشد فقراً ». موضوعة الفقراء والأغنياء تلك ليست فقط حمّالة أوجه، بل إنّها مقولة تضليلية تغطي على استثمار الإنسان للإنسان، ولا تجد حلاً للتفاوت الطبقي بين الناس إلا من خلال فعل الخير وإطعام «الفقراء» وهم صاغرون.
نظام الحكم القائم في سوريا لن يتمكن من البقاء. مصيره كمصير ذلك الذي كان قائماً في الاتحاد السوفياتي. الغريب هو في بقائه حوالى ربع قرن، بعد زوال «النموذج». وربما لن تشفع له سياسة «الممانعة»، فتلك أيضاً بحاجة الى أوسع تأييد شعبي، يصدر عن مجتمع ديموقراطي تقوده هيئات حزبية وجماهيرية حرة ومستقلة، يضمّها تجمع وطني عريض.
من المؤكد أنّ المعارضة في سوريا هي في الجوهر معارضة وطنية، إلا أن كتائب إرهابية مدعومة من الخارج التحقت بها. لكن، هل بإمكان أي تدخل خارجي أن ينجح إن لم تكن هناك بيئة داخلية يستطيع أن يسرح فيها ويمرح؟
بين العنف والحرب الأهلية الطائفية من جهة، والفوضى والاستبداد الأصولي الطائفي أيضاً، هناك طريق ثالثة. المعارضة الوطنية السورية لم تبلور برنامجاً سياسياً للخلاص الوطني يلحظ أسس عملية التغيير المطلوبة ومآلات ذلك التغيير. وكذلك، فإنّ بيان المثقفين لم يلحظ مثل ذلك البرنامج، فظل أسير عموميات ضبابية.
نعم، من حق المثقفين أن يطرحوا رأيهم، بصفتهم تلك، في كل بلد وكل زمان. كما أنّ لهم أن يعتبروا آراءهم «نخبوية»، ولكن ماذا عن مئات الناس الآخرين من ناشطين سياسيين ونقابيين وممثلي الرأي العام «غير المثقف»؟
مواقف اليمين الذي يشدّد على «الحرية»، مستبعداً أن تكون محكومة بحريات الآخرين، حريات الأكثرية وحقوقها، هي التي تصدر عنها تأملات المثقفين.
* محامٍ لبناني