وصلت الانتفاضة العربية التي بدأت في تونس ومصر إلى ذروتها، في الحادي عشر من شباط، يوم أُجبر الرئيس حسني مبارك على التنحي. كانت تلك الانتفاضة سلمية، محلية، عفوية، وبدت موحدة. قلبت نظرية لينين رأساً على عقب. فحسب القائد الروسي، إنّ أي ثورة ناجحة تتطلب حزباً سياسياً منظماً وذات بنية، وقيادة صلبة، وبرنامجاً واضحاً. أما الثورة المصرية، كمثيلتها التونسية، على عكس الثورة الإيرانية، لم تملك التنظيم، أو قادة معروفين أو برنامج عمل واضحاً.
منذ إطاحة مبارك، بدا كلّ ما يحصل في المنطقة على تضاد كامل مع كلّ ما كان يحصل فيها من قبل. أصبحت التظاهرات عنيفة في اليمن، والبحرين، وليبيا، وسوريا. تورطت الدول الأجنبية في كلّ من تلك الصراعات. برزت الانقسامات العرقية، القبلية والمذهبية. وتنافست الأحزاب والمنظمات، وكذلك النخبة السياسية والاقتصادية على السلطة، ما يجعل العديد من المتظاهرين يشعرون بأنّ التاريخ الذي كانوا يصنعونه منذ وقت قليل، يتخطاهم.
وسط تصاعد شعور بعدم الأمان وعدم اليقين، يبرز الخوف والإحساس بشرّ قادم. ينتشر الدم في العديد من المناطق، كما تنتشر التهديدات والشكوك. وبدأ الناس الذين كانوا في السابق مبتهجين بالفوائد المحتملة للتغيير، يفاجأون اليوم بأثمان ذلك التغيير الحالية الواضحة. وفيما يكبر القلق من المستقبل، لا يبدو أي من الأحداث السابقة طاهراً أو بعيداً عن النقد. يتم التشكيك بقصص الانتفاضة كمسألة شفافة وبريئة. في مصر وتونس، يجري تخيّل واختراع مخططات ومؤامرات؛ فالجيش وبقايا النظام القديم الأخرى، الذين لا يزالون يحافظون على الكثير من السلطة، متهمون بالتخطيط لضربات استباقية. في البحرين، يُتهم المتظاهرون بأنّهم عملاء لإيران؛ وفي سوريا يصوّرون كإسلاميين متطرفين مدعومين من الخارج. لا يتم تقديم سوى القليل من الأدلة على ذلك. يبدو الأمر غير مهم.
كان يوم 11 شباط ذروة الثورة العربية. في 12 شباط، بدأت الثورة المضادة.

1


يُحتفى بالانتفاضة العربية لعام 2011، أحياناً، كحدث لا مثيل له في تاريخ المنطقة. تستعاد أشباح الثورات الأوروبية التي حصلت في 1848، والتظاهرات الشعبية التي أدت الى انهيار القطب السوفياتي. لا ضرورة للعودة الى الوراء، والنظر إلى أماكن بعيدة ذاك البعد. تتكشف الصحوة العربية الحالية عن مكوّنات مميزة، لكنّها تشبه الأحداث التي اجتاحت العالم العربي في الخمسينيات والستينيات، وخصوصاً في ما يتعلق بالمشاعر التي ساهمت بإطلاقها في البدء والنتائج السياسية التي تلت ذلك.
في الأيام التي سبقت بكثير مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات التلفزة التي تبث 24/7 على مدار السنة، أسر جمال عبد الناصر، وهو ضابط مصري شاب، عقول ملايين العرب، وخلق مشاعر ابتهاج شعبي يمكن مقارنتها بكل ما نشهده اليوم. تسلّم حزب البعث الحكم في سوريا والعراق، واعداً بإعادة الكرامة، ومهللاً للحرية والحداثة؛ انتصرت حركة تحرير وطني في الجزائر؛ أنشئت جمهورية اشتراكية في جنوب اليمن؛ ووصل معمر القذافي بخلطته الغربية إلى السلطة في ليبيا.
في تلك الأيام، تحرك العديد من الناس بسبب عدم شرعية مؤسسات الدولة وعدم فعاليتها؛ الفساد المتفشي والتوزيع غير العادل للثروات؛ تركيز السلطة في أيدي نخب طفيلية؛ نفور من التذلل للسادة الكولونياليين السابقين والحاليين؛ والعار الذي توّج بالنكبة الفلسطينية، وعدم القدرة على تصحيحها. احتفلت شعارات تلك الفترة بالاستقلال، والوحدة العربية، والحرية، والكرامة والاشتراكية.
رغم أنّ الجيش كان القوّة الطليعية آنذاك، انطلقت ثورات 2011 من مشاعر مماثلة، وتأثرت بطموحات مشابهة. لقد أدت متاعب الوحدة العربية إلى جعل مفهوم تلك الوحدة مشتبهاً فيه. كذلك، تلطخ مفهوم الاشتراكية. لكن إذا وضعنا الوحدة الوطنية المحلية، داخل كل بلد، مكان الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية، ووضعنا الهجوم على الرأسمالية الجشعة مكان الاشتراكية، يصعب عندها ألا نسمع أصداء واضحة من الماضي في دعوات التغيير التي نراها اليوم.
مصير التجديد العربي القديم ذاك يقدم سابقة مفيدة. لكنّه، أكثر من ذلك، يقدم لنا قصة ذات عِبَر. وسط الاضطراب والحماسة، تنافست تيارات سياسية عدّة. زاوج البعض منها بين الوطنية العلمانية والقومية العربية، البعض الآخر تبنّى أشكالاً مختلفة من الماركسية، فيما تبنّى البعض ليبرالية تميل إلى الغرب. في النهاية، قُمِع اليساريون والشيوعيون، وبالشكل الأعنف خاصة في العراق والسودان. في الدول الأخرى، تم احتواؤهم في النظام أو هزموا. لم يتمكن النشطاء الليبراليون من تثبيت أي قدم حقيقية؛ فقد هُمّشوا بسبب الاشتباه في صلاتهم بالقوى الأجنبية. بعد مغازلة الإسلاميين لفترة وجيزة، بدأت الأنظمة تدرك بسرعة أنّهم يمثّلون خطراً. وبدرجة مختلفة من سفك الدماء، دفعتهم إلى العمل السري في مصر وشمال أفريقيا والشرق.
ما ظهر بعد ذلك هو ائتلافات حاكمة، مؤلفة من عسكريين وحركات وطنية علمانية مختلفة. أدى ذلك إلى نشوء جمهوريات استبدادية عسكرية، حيث كانت ايديولوجيات الحداثة، والقومية العربية والاشتراكية تخيّلات بعيدة عن الواقع. مارسوا السلطة عبر مؤسسات أمنية داخلية ـــــ «المخابرات» ذات الصيت السيئ ـــــ وعبر قمع المعارضة؛ وتطويع مجموعات مختلفة لخدمة النظام مثل التجار والفلاحين والصناعيين والموظفين. كانت السياسة محصورة بالحكام. بالنسبة الى الآخرين، أصبحت السياسة نشاطاً جرمياً.
انتهت التجربة بفشل ذريع. تركزت الثروة بيد قلّة، وانتشر الفساد كالوباء المستشري. وتم تجاهل قطاعات المجتمع التي حيّت القادة الجدد بحماسة، من الطبقات الريفية المعدمة إلى طبقات المدن الفقيرة. وانتهى الوضع بأن أنجزت الأنظمة العربية أقل في المجالات التي وعدت فيها أكثر. لقد تعهدت باستعادة السيادة الوطنية الحقيقية، لكن على المستوى الإقليمي والدولي صمت الصوت العربي في النهاية. في ما يتعلق بقضايا أساسية مثل فلسطين والعراق والسودان، أثارت الأنظمة ضجة كبيرة جداً، لكن من دون تأثير يذكر. وفيما حلّت الألفية الجديدة، صمتت الجلبة التي كانت أضحت أضحوكة.
إرث ذلك العهد يتخطى الحرمان المادي، أو الحكم غير الفعال، أو القمع الداخلي. الأنظمة التي ولدت في ذروة أيام عبد الناصر والقومية العربية، فقدت مصدر القوة الوحيد الذي كان باستطاعته أن يؤدي إلى غفران كلّ الخطايا، الذي بدونه لا يكفي شيء: إنّه الشعور بالصدقية والكرامة الوطنية. نُظر إلى الدول العربية ككيانات مزوّرة. اشمأز المواطنون من طريقة استيلاء حكامهم على الثروات العامة، واعتبارها ملكاً شخصياً لهم، واتخاذهم قرارات وطنية تحت تأثير خارجي. حين يحصل ذلك، يصبح وجود الأنظمة نفسه ـــــ بالسيطرة الظالمة التي تفرضها على شعوبها والخنوع المذل الذي تمنحه للخارج ـــــ استفزازاً دائماً لا يحتمل.

2


لقد كانت الانتفاضة العربية لعام 2011 رفضاً شعبياً لذلك التبديد للطاقات. باحتشادهم في الشوارع، رفضت آلاف مؤلفة من الناس ما نظرت إليها كغرسات غريبة عنهم وعدوانية. رغم أنّ الشعارات الأولى تناولت الإصلاح، كان البرنامج الحقيقي يتعلق بتغيير النظام. في تونس ومصر، ربح الناس الجولة الأولى بطريقة مذهلة. في المناطق الأخرى، كانت الأمور أكثر فوضوية، لأنّ الأنظمة كان لديها وقت للتأقلم وتحضير ردّها. انتشرت الفوضى، وظهرت تهديدات بحروب أهلية، وانضمّت القوى الأجنبية إلى المعمعة، كما بدأت القوى المذهبية، والعرقية والمناطقية النابذة للمركز تظهر نفسها وتطالب بما تعتبره حقها.
إنّ الصحوة العربية هي قصة ثلاث معارك اجتمعت في معركة واحدة: الناس ضد الأنظمة، والناس ضد الناس، والأنظمة ضد أنظمة أخرى. المعركة الأولى هي عبارة عن لعبة شدّ حبال بين الأنظمة والمتظاهرين العفويين. معظم المتظاهرين مسيّسون فقط بالمعنى الواسع للكلمة، تدفعهم مشاعر غريزية ومبهمة، وأهمها الشعور الكبير بأنّهم لم يعودوا يتحملون. العديد منهم لا يعرفون ماذا يريدون، أو من يساندون، لكنّهم واثقون مما يرفضون ـــــ الإهانات اليومية، والحرمان، وخنق الحريات البسيطة ـــــ وكذلك يعرفون من لا يريدون، ما يجعلهم خصوماً مخيفين. لا تستطيع أي من الأداتين التي يستخدمها الحكام للحفاظ على السيطرة ـــــ القمع و الاحتواء ـــــ النجاح بسهولة. يفشل القمع لأنّه يعزز صورة الدولة ككائن عدائي، ويفشل التحييد لعدم وجود قادة أقوياء بوضوح ممكن استمالتهم، كما أنّ محاولات إغراء الشعب توحي بالضعف، ما يزيد من جرأة المتظاهرين. الصراع الثاني يتضمن معركة مركزة بين المجموعات السياسية المنظمة. يرتبط البعض منها بالنظام القديم، ومنهم الجيش والنخبة الاجتماعية والاقتصادية، والقادة المحليون، وكذلك مجموعة من الأحزاب التقليدية الضعيفة. وهناك أيضاً المعارضة غير الشرعية أو النصف مقبولة، ومن ضمنها الشخصيات والأحزاب وخصوصاً الإسلاميين المنفيين. في ليبيا وسوريا، برزت مجموعات مسلحة، ذات توجهات وأهداف متنوعة. في تلك الحالات، لا يبقى الكثير من حماسة وبراءة الحركات الاحتجاجية، فهنا منطقة التعاطي البعيدة عن المشاعر، حيث السياسة الفجة تتحكم.
العلاقات بين المتظاهرين الشباب والأحزاب المعارضة التقليدية قد تكون ضعيفة، وأحياناً لا يمكن معرفة مقدار تمثيل أي من الطرفين. في مصر حيث معركة الشارع ضد النظام، تم ربحها بسرعة واستقال مبارك بسرعة أيضاً، دخلت التنظيمات السياسية المنظمة ـــــ من الإخوان المسلمين إلى الأحزاب القديمة الاخرى ـــــ على الخط وسعت إلى إخراج المتظاهرين غير المنظمين من الحراك. في اليمن، يتعايش متظاهرو الشوارع بشكل غير مريح مع الأحزاب السياسية المنظمة، والمنشقين عن النظام. في ليبيا، المنافسة بين فصائل المعارضة أدت الى سفك الدماء وقد تحمل في طياتها مستقبلاً فوضوياً. بعض اللجان الشعبية المحلية التي انبثقت في سوريا، تنظر بعين الشك إلى المعارضة المنفية.
الصراع الثالث هو منافسة إقليمية ودولية من أجل النفوذ. لقد أصبح ذلك الصراع جزءاً مهماً من الصورة العامة ويؤدي دوراً تتزايد أهميته. إنّ توازن المنطقة الاستراتيجي على المحك هنا. سيقرر الصراع ما إذا كانت سوريا ستبقى في تحالف مع إيران، أو ستبتعد البحرين عن دائرة النفوذ السعودي، أو ستخرج تركيا مما يحصل أقوى أو مهزومة، أو سيتتأثر الاستقرار في العراق. يشك المرء بأنّ الأمر يتخطى الالتزام بالإصلاح والشغف بالقيم الديموقراطية حين تقوم السعودية والبحرين، وهما نظامان يقمعان بوحشية المعارضين في بلادهما، بحثّ سوريا على السماح بالتظاهر السلمي، وحين تشجب إيران، التي تساند النظام في دمشق، القمع في البحرين، وحين تقلّب أنقرة رهاناتها بين النظام السوري ومعارضيه.
من يتدخلون في شؤون الدول الأخرى متوافرون بكثرة. فالإحساس بأنّ ما يحصل في أي مكان سيكون له تأثير عميق في مناطق أخرى يزداد. حارب الناتو في ليبيا، وساعد على إطاحة القذافي. تتنافس إيران والسعودية في اليمن والبحرين وسوريا، وتأمل قطر رفع مكانتها عبر دفع معارضة ليبيا وسوريا إلى السلطة. في سوريا، ترى تركيا الفرصة سانحة في وقوفها مع الأكثرية السنيّة، لكنّها تخاف مما قد تفعله دمشق وطهران في المقابل: هل ستعيدان إحياء الآمال الانفصالية الكردية، أو تؤثران على وجود أنقرة الحساس في العراق؟ ستستثمر إيران أكثر في العراق إذا شعرت بأنّ سوريا تنساب بعيداً عنها. وبينما يرى الإسلاميون العراقيون وحلفاؤهم الإقليميون التقدم لنظرائهم في ليبيا وسوريا، فكم يا ترى من الوقت سيأخذ هؤلاء لإحياء صراع قد يعتقدون أنّهم تخلوا عنه مبكراً؟
لم تكن الولايات المتحدة الدولة الأخيرة التي تورطت، لكنّها فعلت ذلك من دون هدف واضح، راغبة في مساندة المتظاهرين، لكن غير واثقة من أنّ باستطاعتها العيش مع النتائج. ومن الغرابة والحكمة فى آن أنّ الدولة الأقل ظهوراً هي إسرائيل. فهي تعلم أنّ مصالحها في الميزان، لكنّها تعلم أيضاً الكمّ القليل الذي تستطيع فعله لحماية هذه المصالح. لذلك، كان الصمت أكثر الخيارات حكمة.

3


يمكن عدداً كبيراً من الأمور أن تنتج من تلك الخلطة المعقدة. قد تتعرض التوازنات الإقليمية لهزات عميقة، مع خسارة إيران للحليف السوري. كما أنّ الولايات المتحدة قد تخسر حليفها المصري والسعودية والاستقرار في الخليج. أما تركيا فقد تخسر مكانتها التي حصلت عليها أخيراً. والعراق قد يخسر ديموقراطيته الوليدة الهشة. قد ينتج صراع شرق أوسطي أكبر. على المستوى المحلي، قد تنتج بعض الانتفاضات في خلط للأوراق، فيما يحتفظ وجوه جديدة من النخبة القديمة بالسيطرة. قد تستمر الفوضى، وعدم الاستقرار، واستهداف الأقليات لوقت طويل. من سخرية القدر، أنّ الانتفاضات التي حفزتها المصاعب الاقتصادية، في جزء منها، تزيد من تلك المتاعب. حيث ستحصل الانتخابات، ستؤدي الى الارتباك على الأرجح، بما أنّ المنافسة ستكون بين مجموعات لا تملك خبرة سياسية كبيرة. وكما في كلّ التغيرات الكبيرة، سيكون هناك فترة فوضى قبل استقرار الوضوح، وظهور توازن حقيقي في القوّة للعيان. قد يتزايد عدد من يتساءل عن مدى التحسن في الأنظمة الصاعدة. وليس من المستبعد أن يعود الحنين إلى الماضي. قد تتفتّت بعض الدول بسبب الانقسامات العرقية أو المذهبية أو القبلية. قد تبدأ حرب أهلية، مثل تلك التي اندلعت في اليمن ويتخوف البعض من حدوثها في سوريا. المنطقة جاهزة للانهيار. السودان انقسم، واليمن ممزق بين التمرد الحوثي في الشمال والانفصاليين في الجنوب، وكردستان العراق على حافة الانفصال، وفي فلسطين ذهبت غزة والضفة الغربية كل في طريقه، في سوريا قد يدفع السنّة، والعلويون والأكراد والدروز والقبائل البدوية من أجل حكم ذاتي. قد تسرّع التغييرات الكبيرة الانجراف. فالانتفاضات قد أعادت إحياء رموز الوحدة ـــــ الأعلام الوطنية والأناشيد ـــــ لكنّها، في الوقت عينه، أرخت قبضة الدولة وسهّلت التعبير عن الهويات الما دون وطنية. حتى بربر شمال أفريقيا، الذين غالباً ما جرى تجاهلهم، أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم.
مقابل كلّ الأمور المجهولة تلك، يبدو أنّ هناك القليل من الشك ـــــ فيما المتظاهرون يتعبون والشعب يتعب منهم ـــــ حول أي اتجاه سيميل التوازن. بعد سقوط الديكتاتور، تحمل الانتفاضات السياسية المستمرة في طياتها أثماناً اقتصادية وأمنية باهظة، فيما يرنو معظم الناس إلى النظام والأمان.
يتحدى المتظاهرون الشباب الستاتيكو، ويشعلون روحاً ثورية، ويشيرون إلى طريقة إعادة توزيع السلطة. لكن الحماسة التي يملكونها يقابلها نقص في التنظيم والخبرة السياسية، ما يمنحهم القوّة خلال الانتفاضة ـــــ أي شخصياتهم غير المتبلورة بعد، واندفاعهم ـــــ يؤدي إلى خرابهم المستقبلي. نظاق عملهم هو المجال العلني الواضح للعيان، لكن لسوء حظهم، فإنّ الأمور الحقيقية تحصل في مكان آخر.
نتيجة الصحوة العربية لن تتحدد من قبل هؤلاء الذين أطلقوها. تم الترحيب بالانتفاضات الشعبية بقوة، لكنّها لا تناسب البنية الاجتماعية والسياسية لمجتمعات تقليدية في معظم الأحيان منظمة وفق صلات قبائلية وعائلية، حيث يؤدي الدين دوراً كبيراً والتدخل الخارجي هو أمر طبيعي. ستحدد النتائج من قبل قوى أخرى، أكثر حذراً وواقعية.
سيحاول القوميون واليساريون المساهمة، لكن سمعتهم تلطخت بفعل الوعد السابق الذي مثّلوه وخانوه من قبل. أما الأحزاب الليبرالية العلمانية فحظوظها قليلة، فالجاذبية التي يتمتعون بها في الغرب تقف في علاقة نسبة عكسية مع الشعبية التي يتمتعون بها في بلادهم. وتحتفظ بقايا من الأنظمة القديمة بأوراق كثيرة: خبرة السلطة، صلات مع الأجهزة الأمنية، النفوذ الاقتصادي، وشبكة زبائن محليين. سيكون من الصعب التخلص منهم، لكن جزءاً كبيراً من سخط المتظاهرين موجّه ضدهم، وهم يشكلون أهدافاً سهلة. قد يتمكنون من تخطّي الأزمة والازدهار مجدداً، لكنّهم سيحتاجون إلى سادة وحماة جدد.
يترك ذلك جهتين قويتين ذواتي سمعة غير ملطخة. الأولى هي الجيش الذي أدى موقفه إلى تحديد النتائج بشكل كبير. في ليبيا واليمن، انقسم بين النظام والمعارضين، ما ساهم في الوصول إلى طريق مسدود. في سوريا، وقف الجيش حتى الآن الى جانب النظام، وإذا تغيّر الوضع، فسيتغيّر الكثير معه. في مصر، مع أنّ الجيش مرتبط بالنظام، فك ارتباطه في الوقت المناسب، وانحاز الى المتظاهرين وخرج من المسألة كاللاعب المركزي. هو يسيطر اليوم، ما يضعه في موقع ملائم وغير مريح في الوقت نفسه. يفضل الجيش في مصر أن يحكم من دون أن يبدو أنّه يفعل ذلك، من أجل الحفاظ على امتيازاته، وتجنب الأضواء والمحاسبة. من أجل ذلك، حاول الجيش التوّصل الى تفاهم مع المجموعات السياسية المختلفة. إذا لم ينجح، لا يمكن استبعاد استيلاء عسكري على السلطة.
ثم لدينا الإسلاميون. يرى هؤلاء في الصحوة العربية فرصتهم الذهبية. هي لم تكن ثورتهم ولم تكن فكرتهم، لكنّهم يأملون أن يكون وقتهم قد حان.

4


من كلّ جهات العالم العربي، يبرز الإسلاميون من كلّ التوجهات. في كل المناطق تقريباً هم المجموعة الأكبر والأكثر تنظيماً. في مصر وتونس، حيث كان مسموحاً لهم العمل لفترات متفاوتة كما قمعوا في فترات متفاوتة ـــــ وأحياناً في الفترة نفسها ـــــ هم الفاعلون السياسيون الأكثر نشاطاً. في ليبيا، حيث كانوا محظورين، ساهموا في الانتفاضة ولعبوا دوراً هاماً فيها. في سوريا، حيث ذبحوا، هم جزء مهم من الحركة الاحتجاجية. لقد أفادت الحياة خارج النظام الإسلامي في الاستعداد جيداً للأيام المقبلة. لقد علمتهم سنوات الانتظار الصبر، وهو أساس استراتيجيتهم. لقد تعلموا فن الاستمرار قيد الحياة وفن التسوية من أجل ذلك. هم القوّة السياسية الوحيدة التي تملك رؤية وبرنامجاً لم تشوه سمعتها، بسبب عدم تجربتها في ممارسة السلطة أو التواطؤ فيها. تتوافق لغتهم الدينية وقيمهم الأخلاقية مع قسم كبير من الشعب. يوّفر التيار الإسلامي إجابة للناس الذين يشعرون بأنّهم منعوا من أن يكونوا أنفسهم.
يعرف الإسلاميون مقدار الخوف الذي يثيرونه محلياً، وفي الخارج، والثمن الذي دفعوه سابقاً من أجل ذلك. في بداية التسعينيات، حين كانت جبهة الخلاص الإسلامي الجزائرية على وشك تحقيق نجاح مدوّ في الانتحابات، تدخل الجيش. وقف العالم جانباً. بعد حرب أهلية، وعشرات الآلاف من الضحايا، لم يتعاف إسلاميو الجزائر بعد. بعد فوز حماس الانتخابي في 2006، نُبِذت الحركة من قبل العالم، ومُنِعت من ممارسة الحكم.
بدا الدرس واضحاً: الطريق الأكثر أماناً للوصول الى الحكم هو تجنب ممارسته الواضحة. مع أخذ هذا التاريخ في الحسبان، قد يرغب الإسلاميون في الابتعاد عن الخطوط الأمامية. في مصر، قال بعض قادة الإخوان بوضوح إنّهم لن يسيطروا على البرلمان، وسيحددون نسبة مشاركتهم فيه. كما لن يترشحوا لمناصب عالية، مثل الرئاسة. قد يؤسسون تحالفات، ويقودون من الصفوف الخلفية.
الإسلاميون اليوم في مهمة لطمأنة الناس. قد يخففون من بعض المظاهر الدينية الأكثر إثارة للجدل في مشروعهم، مع تركيز أقل على القانون الإسلامي (الشريعة) وأكثر على الحكم الرشيد والحرب ضد الفساد، واقتصاد السوق الحرة ونظام سياسي تعددي يضمن حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين. سيسعون إلى تحقيق سياسة خارجية أكثر استقلالية وحزماً، لكنّهم قد يسعون، في الوقت نفسه، إلى علاقات جيدة مع الغرب. سيكونون مشككين بشأن اتفاقيات السلام مع إسرائيل، لكنّهم لن يلغوها أو يحاولوا دفع العلاقات الى عداء علني مع الدولة العبرية. النموذج الذي سيروّجون له سيكون أقرب الى تركيا أردوغان من نظام الملالي في إيران أو أفغانستان في عهد طالبان. وبما أنّهم يفتقدون ثقافة تركيا ومؤسساتها، فإنّ النموذج الذي سيبنونه سيكون خاصاً بهم.
بهدوء، قد يقدم الإسلاميون أنفسهم كحلفاء الغرب الأكثر فعالية ضد أعدائه الأكثر شراسة: الجهاديون المسلحون، فهم لديهم الشرعية الدينية لاحتوائهم وعند الضرورة، شلّهم. ويمكنهم مضاهاة قوة إيران عبر عدم إحداث قطيعة مع الجمهورية الإسلامية وتقديم نموذج إسلامي خاص بهم، أقل عدائية، وأكثر جاذبية. هناك سوابق: في الخمسينيات والستينيات، وقف الإسلاميون في المنطقة إلى جانب الغرب والسعودية ضد عبد الناصر، وقبل مدّة ليست طويلة، ساندوا ملك الأردن ضد منظمة التحرير الفلسطينية والمعارضين المحليين، واليوم تركيا الإسلامية على علاقات جيدة مع واشنطن والناتو، حيث هي عضو فعال.
لن يكون مسعاهم ذلك بدون تحديّات. الجانب الآخر من خبرتهم المكثفة في المعارضة هو أنّه لا خبرة لديهم في الحكم. معرفتهم الاقتصادية بدائية للغاية. وإذا تمت دعوتهم للمشاركة في إدارة شؤون الدولة، فستضرر سمعتهم في وقت تزداد فيه خيبة الشعوب والاضطرابات الاقتصادية. تزاوج التوقعات الكبرى والوعود غير المحققة قد يعرضهم لتظاهرات لا يزالون غير جاهزين للتعامل معها.
آفاق السلطة وطعم الحرية يعرضان انضباط الإسلاميين الأسطوري ووحدتهم للاختبار. في مصر تحديداً، بانت تشققات عدّة. ينتقد الإخوان المسلمون الشباب الكبار على فكرهم المحافظ وازدواجية معاييرهم تجاه المتظاهرين، وعلاقتهم الحميمة مع الجيش. هناك تذمر ومنظمات تنشق. على الرغم من التحذيرات القديمة، قد يريد بعض الإسلاميين ممارسة السلطة على قدر ما يستطيعون. هناك توتر بين من يريدون التحالف مع الأحزاب العلمانية، ومن هم مستعدون للانضمام الى نشطاء سلفيين وطهرانيين يرتكز إسلامهم على قراءات حرفية للنصوص. قد تظهر تشققات أخرى. هؤلاء الذين تجذّر في نفوسهم شك عميق من الولايات المتحدة سيكونون غير مستعدين للتحالف مع واشنطن، وسيفضلون تفاهماً مع طهران. غيرهم سيأملون دحر القوّة الشيعية، وقد يريد آخرون التوجه نحو الرياض. الفرع السوري من الإخوان، الذي عانى تحت حكم الأسد المدعوم إيرانياً، قد يعتبر أي تقارب مع طهران غير وارد بالمرة. قد يجري الإسلاميون في اليمن أو الأردن حسابات مختلفة، إذا ما ساعدوا على إطاحة أنظمتهم الموالية للغرب.
التحدي الأبرز للإسلاميين (الذين يعتمدون الحلول الوسط) هو من السلفيين. تركيزهم كان تقليدياً على الأخلاق والتصرفات الفردية، وكانوا يعارضون أي عمل حزبي أو الخوض في سياسات انتخابية. لكنّهم خاضوا تغييراً كبيراً. في مصر، أسسوا نشاطاً سياسياً بارزاً، وخلقوا أحزاباً سياسية عدّة، ويخططون لخوض الانتخابات. في المناطق الأخرى، يشاركون بفعالية في التظاهرات، وفي بعض الأحيان على نحو عنيف. الإسلاميون التقليديون، مثل الإخوان المسلمين، يطوّعون آراءهم لاسترضاء المخاوف الخارجية والمحلية. وكلما شاركوا في الحكم، خاطروا بتهميش مناصريهم الذين يميلون إلى السلفية أو تفسير متشدد أكثر للإسلام. فيما يجاهد الإخوان المسلمون لتحقيق توازن، قد يبرز السلفيون كمستفيدين غير مقصودين. في مصر، وسوريا واليمن وليبيا، التنافس المستقبلي الأكبر لن يكون على الأرجح بين الإسلاميين والقوى المسماة ديموقراطية علمانية. قد يكون بين الإسلاميين والسلفيين.

5


من كلّ مميزات الانتفاضات العربية الأولى، ترتبط الأبرز منها بما لم تكن تلك الانتفاضات عليه. لم يتصدرها العسكر، ولم يُخطط لها من الخارج، ولم تساندها منظمات قوية، ولم تتحلّ برؤية وقيادة واضحة. كذلك، لم تكن عنيفة. الحماسة التي أنتجتها تلك اللحظات الثورية الأولى تدين بأهميتها لما افتقدته، كما لما امتلكته. غياب تلك الصفات هو ما سمح للعديد، وخصوصاً في الغرب، بأن يظنّوا أنّ الاحتفالات العفوية التي شهدوها، ستترجم إلى مجتمعات مفتوحة ليبرالية وديموقراطية.
الثورات تأكل أولادها. الفوائد تعود للأقوياء، الصبورين، الذين يعرفون أهدافهم وكيفية تحقيقها. الثورات هي، عموماً، قصيرة الأمد، مليئة بالطاقات التفجيرية التي تهدم كل ما في طريقها، بمن فيهم الناس والأفكار التي ألهمتهم. وهذا ينطبق على الربيع العربي، فهو سيأتي بالتغيير الجذري، وسيعزز قوّة قوى معيّنة ويهمّش أخرى، لكنّ النشطاء الشباب الذين يهرعون في البداية الى الشوارع، عادة يخسرون في المناوشات التي تلي الثورة. قد يكون الشعب شاكراً لهم ما فعلوه، وقد يقدرهم ويرفعهم الى مصافٍ عالية، لكنّه لن يشعر بأنّه جزء منهم. الوضع الطبيعي لأي ثوري هو أن يرمى جانباً.
سيتم تحديد المستقبل القريب للعالم العربي، على الأرجح، في خلال صراع بين الجيش وبقايا الأنظمة القديمة، والإسلاميين، ولديهم جميعاً جذور وموارد وقدرات وإرادة للتأثير على الأحداث. سيكون للجهات الإقليمية تأثير، ولن تتوانى القوى العالمية عن التورط. وهناك الكثير من النتائج الممكنة. قد يعاد النظام القديم. قد يسيطر العسكر على الحكم. وقد تتشظى الدول في غياب القانون واندلاع الحروب الأهلية. وقد تسيطر الأسلمة تدريجاً. لكنّ النتيجة التي تمناها العديد من المراقبين ـــــ نصر من المتظاهرين الأصليين ـــــ أصبحت على نحو شبه مؤكد وراءنا. بعد تردد، وقفت الولايات المتحدة وغيرها إلى جانب المتظاهرين. أدى العديد من الأمور دوراً في ذلك، ومنها الأمل بأن يعزز ذلك من هم الأقرب الى اعتماد الآراء القريبة من الغرب والرغبة في تملق من هم مرجحون ليتسلّموا السلطة. قد يعبر القادة الجدد عن التقدير لكل من وقف الى جانبهم، لكن أيّة ردّة فعل من هذا القبيل ستستمر لفترة قصيرة الأمد على الأرجح. سيستيقظ الغرب على الأرجح على عالم عربي حكامه أكثر تمثيلاً وثقة، لكن ليسوا أكثر تعاطفاً أو صداقة مع الغرب.
ساعد الفرنسيون والبريطانيون في تحرير العالم العربي من أربعة قرون من الحكم العثماني، وساعدت الولايات المتحدة المجاهدين الأفغان على تحرير أنفسهم من السيطرة السوفياتية، وحررت الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام حسين. لكنّ محرّري الأمس أصبحوا أعداء اليوم، بعد وقت غير طويل. ليست الأمور كما تبدو عليه. ضجيح وغضب اللحظات الثورية قد يشلّان الحواس ويغطيان على الصراعات الأكثر شراسة التي تدور في الظلال.

* حسين آغا هو عضو متقدم في كلية سان أنتوني في جامعة أوكسفورد؛ روبرت مالي هو مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية، وكان مساعداً خاصاً للرئيس الأميركي للشؤون العربية ـــــ الإسرائيلية من 1998 حتى 2001 (عن مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» ــــ ترجمة ديما شريف)