في شوارع فلسطين (المعنوية وليس الجغرافية بالضرورة) لا يتعامل الناس بجديّة مع «إعلان أيلول»، كارثةً كان هذا الإعلان أو نصراً مبيناً. الأسباب كثيرة، أوّلها أنّ الفلسطيني لا يعرف ما الذي يدور حوله: نحن لا نعرف ما المصير الذي قررته لنا لجان الخبراء الدولية التي تعتمد عليها السلطة الفلسطينية في «انتفاضتها الدبلوماسيّة». لا نعرف عمّا يدور الحديث، أولاً، لأنّ أحداً لم يخرج ليشرح معنى «إعلان أيلول». ثانياً، لأنّ السلطة ذاتها لا تعرف ما الذي تريده بالضبط حتى الآن! لكننا في فلسطين نعرف أمراً واحداً، أنّ شيئاً لن يتغيّر علينا في صباح اليوم التالي. نعرف أنّ حالنا لن تتحسن عبر أيّ «هزلية مسرحية على تياترو السلام» يقدمها فريق أوسلو، ونعرف في الوقت ذاته أنّ شيئاً لا يمكن أن يؤول إلى الأسوأ، ببساطة، ليس هنالك ما هو أسوأ.نحن لا نتعامل بجديّة مع الإعلان لأنّنا نعرف أنّ شيئاً لن يتغيّر على أرض الواقع، فالسياسة في فلسطين انفصلت عن الواقع منذ زمنٍ طويل. لا علاقة لما يُقال في المؤتمرات الصحافية بما يحدث على الأرض، لا علاقة لتجميد الاستيطان، مثلاً، بحقيقة أنّ المستوطنات صارت واقعاً لا يختلف عن طبيعة الاستعمار في كل فلسطين التاريخية. تلك الفجوة بين الواقع والسياسة أنجبت فلسطينياً لا يكترث بما يُقوله ويفعله السياسيون.
تلك الفجوة، بين السياسة والواقع، وما تنتجه من لامبالاة الفلسطيني، هي انعكاس لتطوّر الانسجام بين «منظمة تحرير» تحتكر شرعية تمثيل النضال الفلسطيني من طرف، و«سلطة فلسطينية» بدأت بتحطيم مقوّمات النضال من طرف آخر. جوهر الفجوة بين السياسة والواقع هو ذاك التناقض: الممثل السياسي الشرعي والوحيد، المؤتمن على حقوق شعبنا وتوحيد نضاله يعمل على أرض الواقع لبناء سلطة تخنق النضال والعمل السياسي عبر احتكاره بحجة توحيده؛ ويحصره بحقيقة سياسية مشتقة من «العملية السياسية» وليس من الحق التاريخي. ثم يتولى مسؤوليات الاحتلال الإدارية من دون التحرر من سيادته، ويحوّل البنية الاجتماعية والاقتصادية للارتباط الكامل برحمة «سلطته»، ويصل في النهاية إلى مأسسة العمالة عبر تولّيه لجزء من مسؤوليات الاحتلال الأمنية بالتنسيق معه.
لكن، علينا أن نتحلى بالجرأة لنقول إنّ فريق أوسلو ليس المجرم الوحيد في تهميشنا من العمل السياسي وفي خلق اللامبالاة الفلسطينية واليأس الفلسطيني من السياسة: كلّ الفصائل الفلسطينية (فتح، حماس والفصائل اليسارية) شريكة في ذاك النهج، والمواقف من «إعلان أيلول» هي خير دليل على ذلك. لدينا فصائل تتلعثم بين المعارضة والتحفّظ على الإعلان، من دون الجرأة على إبداء أي موقف واضح يترتب عليه فعل سياسي على مستوى العلاقات بين الفصائل أو على المستوى الجماهيري. كلّها فصائل تعلّمت من درس أوسلو أن تصمت عند المنحدرات الكارثية لتحفظ مكاسبها السلطوية والمادية في المرحلة المقبلة. فصائل لا تخجل من نفسها حين يذهب فريق أوسلو إلى المتاجرة بحق تقرير المصير من دون أن يُلتفت إليهم ولو بسؤال. لا يمكن تحليل التصرّف السياسي ذاك على أنّه انتهازية عاديّة؛ نحن أمام قيادات تستغل التراث النضالي للفصيل للحفاظ على تنظيمات ميّتة لم يعد لها أي قاعدة شعبية تلتف حول برنامجها السياسي، بل بقيت إما مع فئات ضيقة ورثت (بتقليدية قاتلة) الانتماء لهذه الفصائل، أو فئات مرتشية بوظائف ومناصب وتفرّغات. لكن تلك الفصائل في الحقيقة صارت أُطراً تشغل حيّزاً من دون القدرة على ملئه بأي مضمون سياسي. ارتبطت الفصائل بالسلطة ولم تعد قادرة على فك الارتباط بها، لأنّها لا تملك ملجأً جماهيرياً بعدما تنازلت عن آمال الناس وحقوقهم باسم البراغماتية السياسية. إحدى مشكلاتنا في فلسطين، هي أن فريق أوسلو أوسع بكثير مما كنّا نظنه.
يصبح، للأسف، المثقف العربي جزءاً من تلك الفجوة، حين ينفصل النقاش السياسي المعارض لـ«إعلان أيلول» أيضاً عن الواقع. إخوة كثيرون يعبّرون عن مواقفهم الوطنية والصادقة، لكنّهم يقعون في فخّ الحديث السياسي غير المرتبط بالواقع. فيطرحون «إعلان أيلول» للنقاش ويطلقون أحكامهم عليه كمعطى فلسطيني: يشير ذلك إلى أنّ الإعلان يُعدّ تنازلاً عن حق العودة، وآخر يقول إنّ القضية ستتحوّل إلى صراع حدود، وذاك يتحدّث عن إضعاف منظمة التحرير، كأنّنا من دون «إعلان الدولة» الجديد، لم نتنازل عن حقّ العودة، وكأنّ الصراع غير مطروح سياسياً كصراع حدود، وكأنّ منظمة التحرير بألف خير وحقوق فلسطينيي اللجوء وفلسطينيي الداخل والمقدسيين في قلب المطالب السياسية للنضال الفلسطيني. يدلّ ذلك كلّه على أنّنا لم ندرك على أرض الواقع أن فريق أوسلو ليس متواطئاً مع إسرائيل، بل هو ذراع لإسرائيل، وبالتالي لا يمكن مطالبته بعدم التنازل، ولا يمكن مطالبته بعدم التفريط، فهؤلاء الذين يخوضون «انتفاضة دبلوماسية» أمام العالم، هم أنفسهم الذين ينسقون أمنياً لقمع النضال الشعبي في حالة انفجاره صدفةً!
علينا أن ننظر إلى تشخيص الحالة على الأرض، والبحث هناك عن ثقل سياسي منافٍ لنهج أوسلو. وسنجد أنفسنا بالضرورة نميل إلى صياغة حملة جديّة لإسقاط الشرعية عن السلطة الوطنية الفلسطينية، بوزاراتها وشركاتها وفصائل الظل المستفيدة منها، بمعنى الدفع نحو قطع أي صلة للنشاط السياسي والثقافي والجماهيري بتلك السلطة، وذلك بموازاة الدفع نحو الصدام الشعبي مع الاحتلال. وهذا الأخير هو المفتاح لتثبيت المقولة بأنّ الاحتلال والسلطة الفلسطينية وحدة واحدة؛ تلك النقطة بالذات، نقطة النضال الشعبي الفلسطيني على نمط الانتفاضة الأولى هي النقطة المشتركة التي يخشاها الإسرائيليون والأوسلويّون معاً بكل وضوح. هي النقطة التي توحّد خطابهم السياسي بضرورة منع وصول التظاهرات إلى نقاط الصدام، وتوحّد ممارساتهم على الأرض حين سيواجه «رجل الأمن» الفلسطيني أبناء شعبه ليحمي الحاجز الإسرائيلي. هكذا يسدّ الاحتجاج الشعبي الفجوة، بل الهوة، بين السياسة والواقع. «إعلان الدولة» في أيلول يكرّس اللامبالاة الفلسطينية، فهو يعزز مكانة السلطة بما تحمل من نفي لمقومات النضال الفلسطيني. يثبت الإعلان نهج أوسلو عبر تحويله من سلطة حكم ذاتي لنظام دولة، وكلما تصاعد تثبيت ذاك النهج، تهافت انخراط فئات الشعب في النضال والعمل السياسي. بالتالي، فإنّ محاربة إعلان الدولة في أيلول يأتي عبر صياغة مبادرات سياسية مناهضة لوجود السلطة الفلسطينية أساساً ولنزع شرعيتها أمام العالم، بالتزامن مع تصعيد نضال شعبي يصطدم مع كل جسم يقف أمامه.

* كاتب فلسطيني