لم يعد الحديث عن تنفيذ الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والسداسية الدولية، إثر التوقيع عليه في فيينا، مصدر شك بعد المصادقة عليه في مجلس الأمن الدولي بالإجماع. ما يعني رفع العقوبات الدولية التي فرضت على إيران، بغض النظر عما إذا كان الكونغرس الأميركي سيوافق على الاتفاق أم لا.
ومصادقة مجلس الأمن تعني عملياً أن إيران قد حققت حزمة من المكاسب والانجازات دفعة واحدة ستحدث من دون شك تحولاً كبيراً مشابهاً في أهميته لانتصار ثورتها على نظام الشاه عام 1979 الذي أحدث زلزالاً في المنطقة والعالم في غير مصلحة المحور الأميركي الغربي. فالإقرار بإيران دولة نووية مستقلة إنما هو بمثابة الانتصار الثاني للشعب الإيراني بعد انتصار ثورته يسهم في نقل إيران إلى مصافي الدول المتقدمة الأولى في العالم، ويضعها على قدم المساواة مع الدول الكبرى، تملك التقنية النووية والمعرفة والقدرة على التطور والارتقاء بالأبحاث العلمية وعلوم الفضاء إلى جانب إحداث طفرات في مجال التنمية الاقتصادية التي ترفع من معدلات نمو الاقتصاد وتحسن مستوى معشية الشعب الإيراني.

إن حلفاء إيران
سيكونون ثاني الرابحين
من نتائج هذا الاتفاق

وإذا كان البعض ينظر إلى الاتفاق في هذه اللحظة باعتباره تسوية بين إيران والدول الغربية، فإنه بالقياس إلى ما كان عليه حجم البرنامج النووي الإيراني وتواضع المطالب الإيرانية عند بدء المفاوضات، وبين ما وصل إليه البرنامج النووي وما حصلت عليه إيران في نهاية المفاوضات، فإنه يمكننا القول وبكل موضوعية إن طهران قد حققت انتصاراً كبيراً، وأن الدول الغربية الاستعمارية تراجعت أمام إيران وسلمت أكثر بكثير مما كانت ترفض القبول به سابقاً. فعند بدء المفاوضات كانت إيران لا تملك أكثر من 300 جهاز طرد مركزي، وكانت مستعدة لقبول تسوية تسمح لها بتخصيب اليورانيوم في دولة ثالثة لأجل تأمين الوقود اللازم لمحطاتها لتوليد الطاقة النووية، أما اليوم فإنها تملك 19 ألف جهاز طرد مركزي ووافقت في الاتفاق على خفضها إلى 5064 جهازاً كافية لتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5 في المئة لإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، وذلك لقاء تقديم إيران كل الضمانات المطلوبة التي تضمن عدم قيامها بتطوير برنامج نووي لصنع الأسلحة النووية، وهو بالأصل ما حرمته طهران وأصدر مرشدها الإمام الخامنئي فتوى بذلك. وبهذا المعنى فإن إيران قد انتزعت في نهاية المفاوضات الاعتراف الدولي بما حققته بقدراتها الذاتية من بناء برنامج نووي وامتلاك التقنية النووية، وتطوير الأبحاث العلمية والحفاظ على جميع المنشآت النووية التي بنتها لهذا الغرض، وبالتالي نجحت في دفع الغرب إلى التخلي عن سعيه لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، وحرمان إيران من امتلاك هذا الحق، بالإضافة إلى رفع كامل العقوبات الدولية المفروضة على إيران، من دون أن تقدم الأخيرة أي تنازل يمس باستقلالية قرارها وسيادتها وقدراتها الدفاعية.
وهذا يعني أن الغرب، من خلال لجوئه إلى فرض العقوبات على إيران ومحاولة إخضاعها، أسهم من حيث لا يدري في دفعها إلى الاعتماد أكثر على قدراتها الذاتية وتطوير برنامجها النووي على نحو باتت معه دولة نووية، وهو ما وضع الغرب وأميركا أمام واحد من ثلاثة خيارات.
الخيار الأول: اللجوء إلى شن الحرب لتدمير البرنامج النووي، لكن خيار الحرب سيكون له عواقب كارثية على مصالح أميركا في المنطقة، وعلى أمن الكيان الصهيوني، بسبب ما تملكه إيران من قدرة الرد على العدوان واحتمال اتساع الحرب لتشمل الجبهتين السورية واللبنانية مع الكيان الصهيوني. وفوق ذلك فإن الحرب لن تتمكن سوى من تأخير البرنامج النووي الإيراني لفترة من الزمن تقدر بسنة، ولن يكون بمقدور أميركا تدمير البرنامج النووي لأن إيران أخذت بالحسبان احتمال الحرب وعمدت إلى بناء منشأة فوردو تحت الأرض تحتوي على آلاف أجهزة الطرد المركزي، ولا تستطيع القنابل الأميركية الذكية أن تصل إليها وتدمرها.
الخيار الثاني: مواصلة سياسة العقوبات، غير أن هذه السياسة لم تمنع إيران طوال العقود الماضية من مواصلة تطوير برنامجها النووي، ولم تؤد إلى تأليب الشعب الإيراني ضد قيادته، أو إضعاف قدرة إيران على الصمود والثبات على التمسك بحقوقها ورفض الخضوع للشروط الأميركية الغربية. عدا عن أنه لم يعد بإمكان أميركا أن تفرض المزيد من العقوبات على إيران بسبب رفض روسيا والصين، والذي تعزز بعد احتدام الصراع بين روسيا والغرب في أكثر من ساحة دولية، وعودة الحرب الباردة لكن بسخونة أكثر مما كانت عليه بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات.
الخيار الثالث: الدخول في مفاوضات مع إيران للتوصل إلى تسوية، تقضي بالاعتراف لإيران ببرنامجها النووي ومواصلة التخصيب للأغراض السلمية مقابل موافقة إيران على إعطاء جميع الضمانات لعدم تطوير برنامج نووي للتسلح، والسماح للشركات الأميركية والأوروبية، أسوة بالشركات الروسية والصينية، للاستثمار في السوق الإيرانية التي تتمتع بإغراء كبير لما تملكه إيران من ثروات نفط وغاز وحاجة للتوسع في تطوير بنيتها لاستخراج النفط والغاز وكذلك تطوير الصناعات النفطية والأبحاث العالمية والتجارة.
في ضوء هذه الخيارات، وانطلاقاً من رؤيتها البراغماتية، قررت واشنطن وحليفاتها سلوك خيار التسوية باعتباره الأقل كلفة بالنسبة لها ويمكن الحصول من خلاله على مكاسب اقتصادية تسهم في التخفيف من الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الاقتصاديات الغربية بسبب الركود الاقتصادي الحاصل، منذ تفجر الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، مقابل التسليم لإيران بالحفاظ على برنامجها النووي ومواصلة إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية. وزاد من نضوج الغرب للسير في هذا الخيار فشل الحرب الإرهابية الاستعمارية في إسقاط الدولة الوطنية السورية المقاومة لمحاصرة إيران وعزلها عربياً، بهدف زيادة منسوب الضغط عليها لإخضاعها للشروط والإملاءات الغربية، وفوق ذلك فقدان أميركا وأنظمة الخليج التابعة لها السيطرة على اليمن، بعد اندلاع الثورة الشعبية وإسقاط النظام الموالي للغرب ونظام آل سعود، ما عزز موازين القوى لمصلحة محور المقاومة الذي نجح بدوره في احتواء الهجوم الإرهابي التكفيري في سورية والعراق، والمدعوم غربياً ومن الأنظمة الرجعية في المنطقة، والانتقال إلى الهجوم واستعادة زمام المبادرة في مواجهته.
ولهذا يمكن القول إن الغرب فشل في إضعاف إيران وفك عرى تحالفها مع قوى المقاومة للاحتلال الصهيوني ومشاريع الهيمنة الاستعمارية. ولم يتمكن من إسقاط سورية للنيل من محور المقاومة وإعادة تعويم المشروع الاستعماري المتعثر في المنطقة، بعد هزيمة قوات الاحتلال الأميركية في العراق، وهزيمة جيش الاحتلال الصهيوني أمام المقاومة في حرب تموز عام 2006، في حين أن تنظيم داعش الإرهابي، ذات الصناعة الأميركية السعودية، خرج عن السيطرة وتحول إلى خطر يهدد أمن الغرب والأنظمة الموالية له، وهو ما عكسته التفجيرات والعمليات الانتحارية التي نفذها داعش في السعودية والكويت وفرنسا وغيرهم من الدول الحليفة لأميركا.
وفي حساب الربح والخسارة يتبين الآتي:
أولا: إن إيران هي الرابح الأكبر من الاتفاق، ليس فقط لناحية انتزاع الاعتراف الدولي بحقها في انتاج الطاقة النووية بقدراتها الذاتية، والوصول إلى المعرفة بكل مستوياتها، والتي يحتكرها الغرب، ويعمل على حرمان دول العالم من امتلاكها لتبقى خاضعة وتابعة له، وإنما أيضاً لناحية المكاسب الاقتصادية والمالية التي حققتها من هذا الاتفاق والمتمثلة في رفع جميع العقوبات الدولية المفروضة على إيران واستعادة عشرات المليارات من الدولارات المجمدة في البنوك الأجنبية (تقدر بـ150 مليار دولار حسب «معهد واشنطن»)، واسترداد أطنان من الذهب المحجوزة في الخارج، وإعادة تصدير نفطها وغازها، وشراء الطائرات المدنية وقطع الغيار لها، الأمر الذي سيمكن إيران من توظيف الأموال لتطوير صناعتها العسكرية والمدنية والنفطية، وإقامة المزيد من محطات انتاج الطاقة النووية، وبالتالي توفير عشرات الآلاف من فرص العمل للشباب الإيراني، وزيادة معدلات النمو وتعزيز قوة العملة الإيرانية ومضاعفة قدرتها الشرائية، ما ينعكس بتحسين مستوى معيشة الشعب الإيراني. ومثل هذه المكاسب التي تجنيها إيران سوف يقوي دورها الإقليمي
والدولي.
ثانياً: إن حلفاء إيران سيكونون ثاني الرابحين من نتائج هذا الاتفاق، فإيران التي لم تتوقف عن تقديم الدعم لحلفائها، وخصوصاً في محور المقاومة، في ظل الحصار المفروض عليها، ستكون، بعد ازدياد قدراتها وعودة انتعاش اقتصادها وصادراتها النفطية وغير النفطية، أكثر قدرة على دعمهم بل وزيادة منسوب هذا الدعم ما ينعكس في تعزيز إمكانيات أطراف حلف المقاومة ممثلة بسورية والمقاومة في لبنان وفلسطين في مجابهتهم للاحتلال الصهيوني وقوى الإرهاب التكفيري، الوجه الآخر للإرهاب الصهيوني.
ثالثاً: إن تنامي قوة إيران وحلفائها يسهم في خلق بيئة جديدة في المنطقة في صالح قوى المقاومة، وتخل بموازين القوى لمصلحتها، على حساب الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين والجولان السوري وبعض مناطق جنوب لبنان، الأمر الذي دفع قادة العدو الصهيوني إلى تنظيم حملة واسعة ضد الاتفاق والسعي عبر الكونغرس الأميركي إلى عدم المصادقة عليه والى رفضه، غير أن ذلك، وان حصل، فإنه لن يحول دون تنفيذ الاتفاق بعد أن تم إقراره في مجلس الأمن ورفع العقوبات الدولية عن إيران.
رابعاً: إنّ الاتفاق يشكّل هزيمة كبيرة لمشروع الولايات المتحدة لإعادة تعويم هيمنتها الأحادية على المنطقة والعالم، ومحاولتها منع نشوء نظام دولي متعدد الأقطاب، فالإقرار الأميركي بإيران دولة نووية يعتبر في الوقت نفسه اعترافاً أميركياً بالفشل في تعويم مشروعها المتداعي، بعد هزيمتها في العراق، وفشل حربها الإرهابية في إسقاط الدولة الوطنية السورية، والعجز عن إخضاع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبالتالي التسليم بها دولة إقليمية نووية مستقلة، واستطراداً إقراراً بانتهاء عصر التفرد الأميركي على القرار الدولي. ما يعني تكريس موازين القوى الدولية والإقليمية الجديدة التي بدأت بالتشكل والتعبير عن نفسها بإنشاء التكتلات الدولية المنافسة للمحور الأميركي الغربي، وتتمثل هذه التكتلات بمنظمة شنغهاي، ومجموعة البريكس اللتين تضمان الدول الصاعدة اقتصادياً والأكثر نمواً في العالم، وتشكل نصف سكان العالم، وتملك الثروات والقدرات النووية والعسكرية الكبيرة. ومن المقرر أن يجرى اعلان قبول عضوية إيران في هذين التكتلين، أما التكتل الثالث فيضم دول أميركا اللاتينية التي تحررت من التبعية للولايات المتحدة.
خامساً: إن الاتفاق سوف يؤدي إلى إيجاد مناخات جديدة في المنطقة تعيد خلط الأوراق وتقود إلى انفتاح العديد من الدول، الدائرة في فلك السياسة الأميركية، على إيران، وفي مقدمها دول الخليج، وهذا سيؤدي إلى تراجع حملات التحريض على إثارة الفتنة السنية الشيعية، ويضعف من قدرة النظام السعودي وكيان العدو الصهيوني في الاستمرار بالمشاغبة على الاتفاق، ويجعلهما في حالة من العزلة الدولية والإقليمية. ويظهر ذلك من خلال عجز الرياض في عقد قمة خليجية لدعم موقفها، بعد أن رحبت بالاتفاق كل من الإمارات وعمان والكويت وقطر، وبالتالي عدم إمكانية تشكيل تحالف إسرائيلي خليجي ضد الاتفاق، لأن نفوذ أميركا وتأثيرها على دول الخليج هو الأقوى، وجميع هذه الدول بما فيها السعودية وإسرائيل، بالمحصلة النهائية، هي دول تابعة للولايات المتحدة، وتخضع لهيمنتها.
ومن دون شك أن هذه التداعيات والانعكاسات المتوقعة للاتفاق النووي سوف تنعكس بتحريك الجهود الدبلوماسية لإيجاد حلول للأزمات في المنطقة والعالم، وقد تعطي دفعاً لإنجاح المبادرة الروسية التي اطلقها الرئيس فلاديمير بوتين لتشكيل تحالف اقليمي دولي لمكافحة الإرهاب التكفيري الداعشي، خصوصاً بعد أن سقط الرهان على اسقاط سورية ومحاصرة المقاومة، وانقلبت داعش على الدول التي رعتها ودعمتها عسكرياً ومادياً، وأصبحت خطراً على أمنها واستقرارها.
* كاتب لبناني