من جديد، يثبت البحر الأبيض المتوسط أنّه مركز الكون، سواء في حكمته أو كوارثه. لقد اشتكى المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل من أنّ الاكتشافات الجغرافية أفقدت المتوسط مركزيته، لمصلحة المحيط الأطلسي، والآن المحيط الهادي. هذا صحيح على الصعيد الاقتصادي، لكنّ المتوسط هو مرآة السياسات الخارجية للدول، في بداية القرن الواحد والعشرين، فحوله تتجمع كلّ الصراعات العريقة، إذ لكلّ دولة مبعوث إلى الشرق الأوسط، وهنا تتدخل القوى الاستعمارية التقليدية، وأيضاً القوى الصاعدة التي تبحث عن موطئ قدم. هناك من يدخل المتوسط من قناة السويس، ومن يدخله من مضيقي البوسفور أو جبل طارق...جاءت الثورات العربية لتزيد من حدّة الصراع في هذه المرآة. صراع يتخذ الآن شكل دعم الشعوب لتتحرر من الأوليغارشيات التي تحكمها في شرق المتوسط وجنوبه.
في رواية «شرق المتوسط»، سرد عبد الرحمن منيف ما يفعله الجلادون برجب، البطل: يشتمونه، يبصقون ويبولون على وجهه، يصفعونه بأيادٍ سمينة بيضاء، يركلونه حيثما جاءت الضربة، يصبون الماء البارد على جسمه في الشتاء، يمنعونه من النوم، يمنعون أمه من زيارته حتى ماتت بمرض القلب، يمنعونه من الذهاب إلى المرحاض، يسجنونه انفرادياً في قبو مظلم وبارد، يغطسون رأسه في بركة ماء، يعلقونه في السقف، يجوّعونه، يجلدونه بالكرابيج حتى تحوّل جسده إلى خريطة، يضربون رأسه على الجدار، يطفئون السجائر في جسمه...
حين خرج رجب من السجن، وسافر إلى شمال المتوسط، كتب لأخته: «أثينا تغرق في الضباب الناعم، مطر هادئ في نهاية الليل. أما في الصباح، فالضباب والنقاء، كل شيء مغسول يكاد يضحك».
هذه الأيام، في شرق المتوسط، لا يعتقلون أمثال رجب، بل يطلقون عليهم النار في الشوارع. انتهى النقاش. ومن جديد، تأتي النجدة من شمال المتوسط. لا أحد يعلم ماذا كان القذافي سيفعل لولا تدخل حلف الناتو ضده. تدخل أوباما كان أنيقاً، فإذا كان بوش قد تدخّل من تلقاء نفسه في العراق، وجلب عليه سخط الجميع، فإنّ أوباما قلب القاعدة في ليبيا. ترك الأوروبيّين يتدخلون، وعندما عجزوا عن حسم مصير القذافي، صاروا يرجون أميركا أن تتدخل. يتريث أوباما ويزداد التوسل. بعث طائرة بدون طيار لتدك أنفاق القذافي، فقتل ولده سيف العرب. وفي الوقت نفسه، أرسل فرقة كوماندوس لبن لادن في باكستان، وهكذا سيضعف من معنويات السلفيّين المتشددين في بنغازي وطرابلس الشرق. يجري ذلك في مرحلة حرجة. مرحلة بلغ فيها الشك بين شعوب الضفتين مستويات جعلت التعاون مستحيلاً. صار الخوف من هيمنة الآخر يغذّي الشكوكية، وتلك تغذي أنانية الدولة القومية، لتتدبر أمورها حسب مصالحها. وعندما تقرأ هذه المصلحة الوطنية كتطابق مع مصلحة الأوليغارشية الحاكمة، فإنّ الشعوب تدفع الثمن.
يرفض المثاليون التدخل الأجنبي باسم سيادة كلّ دولة على مجالها الترابي وسياستها الخارجية، لكنّ السيادة مصدرها الشعب، وعندما يقوم نظام بذبح شعبه في شرق المتوسط، فهل يملك أصلاً شرعية وسيادة ليفقدهما؟ لا.
صحيح أنّ الاختيار بين القذافي والتدخل الأجنبي هو اختيار بين الكوليرا والطاعون. مع ذلك، فإنّ رجب طيب أردوغان يطل من مضيق البوسفور، ويلعب على كلّ الحبال: يحزن للشعب الليبي، وينتقد تدخل حلف الأطلسي، ويطالب برحيل القذافي. لا يرحل الدكتاتور إلا مرغماً مهاناً.
هذا على الصعيد السياسي. لكن للمتوسط وزنه الديني أيضاً، ففي ملاحظاته العميقة، يسجل المؤرخ بروديل أنّ للمتوسط إلهاً واحداً، لكن هذا الامتياز صار نقمة، فتجاور اليهودية والمسيحية والإسلام لم ينتج السلام، رغم أنّ أتباع تلك الديانات يعبدون الرب نفسه الذي بعث موسى وعيسى ومحمد. كلّ يعتبر نبيه هو الأهم.
في مصر، تكاد تجري حرب أهلية بسبب كاميليا شحاتة، المسلمة أو المسيحية. في إسرائيل، سيطر الحريديون على الدولة، وفي روما يسرّعون تطويب يوحنا بولس الثاني، بينما يغرق برلسكوني في إباحية لا شفيع لها. أما في الأزهر، فيحتجون على رمي جثة بن لادن في البحر، خلافاً لتعاليم الشريعة الإسلامية.
هنا أيضاً، يظهر ظلّ أميركا فوق الجدل الديني في المتوسط. فمن الواضح أنّ مستشاري الرئيس الأميركي درسوا جيداً ردود الأفعال المحتملة، ووفّروا مجرى لتصريفها. أدركوا أنّ خبر قتل بن لادن سيفقد أهميته بعد أربع وعشرين ساعة من سحقه بالتعليقات المختلفة، لذا فإنّ محرري خطاب أوباما قضوا ساعات وهم يتجادلون بشأن ابتكار كيس رمل يمطّط الجدل، ويمنح الراغبين في تبديد طاقتهم فرصة للتسديد. لهذا طمأنوا الأمة الإسلامية:
«دُفن بن لادن في البحر من على ظهر حاملة طائرات أميركية في شمال بحر العرب، بعد إتمام الغسل وإجراءات الدفن، وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية». وللأكثر شكاً أضيف: «دفن جثمان بن لادن جرى مع الالتزام الصارم بأحكام الشريعة الإسلامية والعادات».
كيس الرمل كامل، فيه العروبة والإسلام معاً، وبصرامة. أول من ارتمى عليه كان شيخ الأزهر الشريف، الذي أكد أنّه «لا يجوز في الشريعة الإسلامية التمثيل بالأموات، مهما كانت مللهم ونحلهم، فإكرام الميت دفنه». انزعج الأزهر من التنكيل بجثة ميت، لكن التنكيل لسنوات طويلة بالأحياء، على يد الأمن المركزي في مصر، ليس مشكلة. ماذا سيفعل الإمام الأكبر لمنع تنكيل السلفيين بكاميليا شحاتة؟
من جهته، طالب المحامي منتصر الزيات بأن يجري الدفن في السعودية. ماذا لو تفضّلت هذه وطلبت من الإخوان في مصر أن يقيموا ضريحاً لبن لادن وسط ميدان التحرير في القاهرة؟ هل سيوافق الزيات؟
من جهتهم، أعلن جهاديون أنّهم سينتقمون لعدم احترام الجثة. وهكذا صار الدفن هو موضوع الجدل. جرى الانشغال بالفرع وترك الأصل. هكذا يتّضح أنّ الأميركيّين صمّموا كيس رمل ملائماً للمستعدين لتفريغ طاقتهم الزائدة في الجدل. كيس مفيد لتحويل الأنظار، ولطرح الأسئلة الخاطئة. كل ذلك يكشف خللاً رهيباً في أولويات شرق المتوسط، كما تدل على ذلك الحكاية التالية. يحكى أنّ حجراً سقط من السماء، وفي طريقه إلى الأرض انشطر إلى قسمين، سقط قسم منه على ضفاف شرق المتوسط وسقط النصف الآخر على ضفاف بحر الصين. تجمّع العلماء الصينيون واليابانيون حول الحجر ليدرسوا هل سيصلح لعلاج السرطان أم الأنفلوانزا. أما حجر شرق المتوسط، فاجتمع حوله فريقان: فريق يقول إنّه صالح للتيمّم، وفريق يقول: أبداً، غير صالح.
لا يتوقّف الجدل بين الفريقين. ففي شمال المتوسط، تفقد أوروبا ثقتها بنفسها، إذ سيطر عليها الرعب ويصعد اليمين المتشدد الذي يهدد بتحويل حياة المهاجرين إلى جحيم. يمين مسعور، يجعل من تصدير الطماطم قضية وطنية تستحق الحرب. تجري اعتصامات يائسة في بلد أرسطو، ونرى شبيبة مندفعة تحرق وتكسر في ضواحي باريس، فتمهّد لساركوزي الطريق للفوز بولاية ثانية، لأنّه وحده القادر، حسب لفظه، على ضبط الحثالة.
في جنوب المتوسط وشرقه، ثمّة انقسام شديد في المجتمعات بين الحداثة والتقليد. تسيطر أسلمة ذهنية وتديّن لفظي لا تديّن منتج مثل ذاك الذي حلّله ماكس فيبر في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية».
بدلاً من أن تمحو الثورات تلك الانقسامات أبرزتها. وهذه هي حال البحر الذي يفترض أن يكون اليوم، حسب إدغار موران، بحيرة سلام تجمع أكثر مما تفرّق...

* صحافي مغربي