أصبح بإمكاننا التوقّف قليلاً للتأمّل في حركة الثورات والانتفاضات والتحرّكات الشعبيّة. هذا التأمل ليس لجهة إخلاص الشعوب في النيّة، وتوقها للحرّية، وعشقها لعيش إنسانيّتها التي حاول الطغاة والجبابرة طمسها لعقود. فهذه الثورات والتحرّكات أكّدت حيويّة الشعوب العربية والإسلاميّة، وأنّها قادرة على صناعة التغيير عندما تُريد. و أكدّت كذلك أنّ زخم القيم المتّصلة بالعزّة والكرامة، وإن خبا قليلاً تحت رماد الحرائق التي يشعلها الطغاة في يوميّات الناس، لا يلبث أن يطفو على سطح الأحداث ليدهش العالم، في عصيانه على الموت والتدمير والقهر والإذلال. لكنّ التأمّل يفرضه الواقع الذي تتعقّد عنده المواقف، وتتباطأ في جانبٍ منه حركة التغيير، كما في مصر وتونس، وتتسارع فيه الضربات العسكريّة الأجنبيّة التي تعمل على أجندة مختلفة عن أجندة الشعوب، كما في ليبيا، وتفرز تعقيدات العلاقات في عالمنا العربي والإسلامي صعوداً للمشاعر المذهبيّة التي تضيع خلفها المطالب الاجتماعيّة والسياسية، كما في البحرين. ويبرز حديث عن مؤامرات استغلّت التحرّكات الداعية إلى الإصلاح في سوريا التي أقرّ الجميع بواقعيّتها وصوابيّتها، مضافاً إلى التعقيدات الجيوسياسيّة والاجتماعية في اليمن...وإلى جانب ذلك كلّه، يبقى التراشق بين المتحاورين على فايسبوك وتويتر وغيرهما، تبعاً لخلفيّاتهم المتنوّعة، في مسألة التحرّكات الشعبيّة في إيران في الآونة الأخيرة، فضلاً عمّا رافق الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، ليكون الحوار أشبه بتسجيل النقاط. وهي عادة أدمنتها شعوبنا على مرّ تاريخ الصراعات العرقيّة والمذهبيّة، وعمل بعض الإعلام على تظهيرها وتجذيرها من جديد في أرض الواقع.
يدفعنا هذا التأمّل إلى التوقّف عند أمور عدّة: فأولاً، لا يمكن الشعوب أن تغفل في أيّ من تحرّكاتها وثوراتها أنّ هناك قوى نافذة في هذا العالم، لها أجندات وخطط وأهداف، تختلف عن أجندات الشعوب وخططها وأهدافه. كذلك إنّ نفوذ تلك القوى، مع وسائلها الدولية وخطابها الإعلامي وتأثيراتها السياسية المتنوّعة، تجعل بالإمكان أن تدخل على خطّ أيّ ثورة أو تحرُّكٍ لحرفه عن مساره. وبالتالي، إنّ إغفال ذلك في الحسبان لا يُمكن أن يخسّرنا الأرواح الزكية التي تسقط في طريق الثورة فقط، بل الثورة نفسها، والمستقبل الذي قد يعود مجدّداً ليرزح تحت واقع أصعب وأكثر مرارة من الواقع الذي هربنا منه وثرنا عليه.
ثانياً، من الضروري الإعداد ـــــ للثورة والتحرّك ـــــ لأمرين: مضمون الثورة وأحقّية مطالبها من جهة، وأسلوب الحركة، مقارناً بالظروف الموضوعية التي قد تقرّب تحقيق الهدف، وقد تبعّده، من جهة ثانية. وغيرُ كافٍ أن تكون خلفيّات الثورة ومطالبها محقّة ـ وهي ليست إلا محقّة ـ؛ لأنّ المُعطى القيمي لا بدّ أن يتحرّك على الأرض بوسائل إنّما تكتسب جدارتها من خلال ملاءمتها لأرض الواقع وظروفه مقارناً بالهدف. ومن هنا، علينا أن نكون دقيقين في دراسة الظروف ووسائل التغيير، التي قد تفرض أحياناً أن تكون الحركة تحت سقف النظام، بهدف تحقيق مكاسب مرحليّة لا يسمح الظرف بأكثر منها. وقد تفرض رفع السقف إلى تغيير النظام برمّته؛ لأنّ الظرف لا يسمح بأقلّ من ذلك. وقد تفرض كذلك الحوار مع النظام تحت ضغط الشارع، وقد تفرض الالتفاف على الواقع القائم، بهدف توفير الظروف الموضوعيّة لنجاح الثورة وتحقيق أهدافها.
وإلا، فمن الخطأ أن يدفعنا تبنّي شعار الثورة إلى تكرار الشكل والأسلوب في ظروف مختلفة، وأنظمة ليست ذات طبيعة واحدة. هذا، ولا سيّما أنّ حركة الثورات قد انطلقت بما يُشبه العدوى المتنقّلة، أو الهزّات الارتداديّة، وكانت الوقائع على الأرض هي التي تدفع باتّجاه دراسة الخطوات اللاحقة، غير متناسين دور القوى السياسية والإعلاميّة في تهيئة قيادات الأمر الواقع، بهدف الالتفاف على حركة الثورة في المرحلة اللاحقة على سقوط النظام.
وتفترض الموضوعيّة هنا قراءة تقويمية تاريخية سريعة، لإنجازات أيّ نظام يُراد إعلان الثورة عليه؛ لأنّ الحماسة المشروعة في منطلقاته الظرفيّة، قد لا تضرب النظام فحسب، بل قد تضرب إنجازات ينبغي التحرّك والثورة والضغط لمراكمتها وتسريع خطواتها، لا لقلبها بما يعيد التاريخ إلى الوراء.
وهذا ما ينبغي أن يحكم منطق التفريق بين التحرّكات والثورات التي قامت بها الشعوب إلى الآن، بين دولةٍ وأخرى، حتّى لا تكون مسألة التفريق مسألة اعتباطيّة تقرب إلى سياسة الكيل بمكيالين.
ثالثاً، لا يُمكن إغفال وجود الكيان الصهيوني بحال في أيّ من الخيارات التي نتبنّاها؛ لا لنجعل من ذلك شمّاعة نعلّق عليها ضرب أي تحرّك محقّ، بل لأنّ لهذا الكيان أجندته الخاصة. أجندة تتصل بأطماعه وظروفه التي رزح تحتها منذ عام 2000، مروراً بهزيمته في لبنان عام 2006 وفي غزّة 2008. كذلك إنّ هذا الكيان مرتبط عضويّاً بحركة السياسة الدوليّة التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية بالخصوص، ما يفترض أنّ أيّ تحرّك شعبي يؤثّر سلباً أو إيجاباً على هذا الكيان، في ظلّ عدم امتلاك كلّ الأدوات والأرض، قد يدمّر الحاضر والمستقبل برمّته في هذا البلد أو ذاك. بالتالي، يجب أن نعي ذلك بالنسبة إلى الدول الممانعة لهيمنة المشروع الصهيوني في المنطقة.
رابعاً، مع وعي أهمّية ذلك، لا يُمكن إغفال ضرورة الإصلاح، ولا يُمكن الأنظمة القائمة في دول الممانعة أن تلعب لعبة إسكات الشارع تحت ذريعة الموقف الوطني الذي تفقده دول أخرى، وحتّى تحت ذريعة المؤامرات الخارجيّة، وليست ببعيدة؛ ذلك لأنّ الموقف الوطني الذي ينطلق به صدقُ الجماهير، قد ينوء تحت ثقل أعباء الحياة اليومية، وتفشّي الفساد. والمؤامرات إنّما يكون لها تأثير، إذا كانت الساحة الداخلية مكشوفة، ولو جزئيّاً. لذلك، أعتقد أنّ بإمكان القيادات التي تحمل شعار الإصلاح، أو التي قطعت شوطاً به، أن تعمل على خطّين: الأوّل هو خط فضح المؤامرات الخارجية ـــــ إذا وجدت ـــــ بالدليل والبرهان، حتّى يشعر الناس بأنّ المسألة ليست محاولةً للالتفاف على المطالب الإصلاحية، بقدر ما هي أخطار تحدق بالجميع وعلى الجميع أن يتآزروا ضدّها. والثاني هو اعتبار الشارع فرصة وقاعدة، يمكن هذه القيادات أن تستند إليها لتأكيد إخلاصها لشعاراتها من جهة، وللتقوّي بها على العناصر المعرقلة للإصلاح التي لا يخلو منها نظام أو دولة.
بذلك، يتحقّق التكامل والاندماج بين القيادات الإصلاحيّة الرؤية والهوى، وبين الجماهير التي ستكون مستعدّة للصبر مجدّداً في طريق واضح لتحقيق الأهداف الإصلاحيّة. وستمارس هذه الجماهير الدور الواعي الكبير في ضرب المؤامرات التي قد يغيب تبصّرها في حمأة الشعار الحماسي الذي يغذّيه اليأس من التغيير بأدوات الأنظمة الحاليّة.
خامساً، لقد آن الأوان لأن نكفّ ـــــ نحن الشعوب بوجه خاصّ ـــــ عن القراءة المذهبيّة أو العرقيّة أو الساذجة لحركة الصراع بين الدول في منطقتنا العربية والإسلاميّة وعلى أرضها من خلال الصراع مع الدول والقوى الكبرى المستكبرة. فتلك القراءات تمثّل أحد أهمّ المنافذ التي تلجأ إليها الأنظمة، المحلّية والدوليّة، لإفشال الثورات وإيقاع التنازع عليها، والتي قد تسقط فيها القيادات، فضلاً عن الجماهير والشعوب.
كذلك ثمّة خشية كُبرى لدى الكثير من المراقبين، منذ أن لاحت بوادر انتصار الثورة في مصر بالخصوص، في أن يجري العمل على تكثيف حضور الشعوب على مستوى القيادة السياسيّة من جهة، وتفشيل أيّ خطط بديلة لواقع الديكتاتوريّات، تعمل على إعادة الانتظام في إطار أنظمة عادلة ومتينة من جهة ثانية. يعني ذلك كشف الواقع العربي والإسلامي كلّه أمام تناقضاته المذهبيّة والعرقيّة والقبليّة، فيُعمل على إدخال المنطقة بأسرها في فتنة، يفرضها الجنون الاستكباري والصهيوني في لحظة امتزاج نزوع الدول الكبرى للخروج من أزماتها الاقتصادية التي أفرزتها الأزمة الاقتصادية العالميّة، مع الخوف من فقدان السيطرة أمام تنامي شعور شعوب المنطقة بالحاجة إلى الحرّية والكرامة. يضاف كلّ ذلك إلى الادّعاء الفارغ لدى تلك الدول بالقدرة على ضبط الأمور والحدّ من النيران.

* باحث إسلامي