وقّعت كل من الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، على التوالي، اتفاقاً بينهما، بشأن إنشاء محكمة خاصة بلبنان، بتاريخ 23 كانون الثاني عام 2006 و6 شباط عام 2007. وفي 14 أيار من العام نفسه، وجّه رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، فؤاد السنيورة، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يعلمه فيها أنّ «جميع الخيارات المحلية للتصديق على الصكوك المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان، قد استُنفدت».
وأشار الى أنّ أغلبية نيابية ـــ رغم عدم انعقاد مجلس النواب ـــ قد أعربت عن تأييدها للمحكمة، بموجب وثيقة ـــ وقّعت خارج قبة البرلمان ـــ طالباً من الأمين العام أن يعرض على مجلس الأمن إنشاء محكمة خاصة بلبنان، و«على سبيل الاستعجال».
في أعقاب ذلك، انعقد مجلس الأمن وأصدر القرار 1757، بتاريخ 30 أيار 2007، ونص على وضع الاتفاق حول المحكمة الخاصة بلبنان، المتفق عليها مع الحكومة اللبنانية، موضع التنفيذ، على أن يسري ذلك اعتباراً من العاشر من حزيران 2007، تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وتضمن القرار نصاً واضحاً يفيد بأنّ سريان أحكام اتفاق إنشاء المحكمة، يبدأ من تاريخ 10 حزيران 2007، بما في ذلك الضميمة الملحقة بها، المتعلقة بنظام المحكمة الخاصة بلبنان، ما لم تقدم حكومة لبنان إلى الأمم المتحدة إخطاراً خطياً قبل ذلك التاريخ، بالامتثال للشروط القانونية لبدء سريان الأحكام المذكورة.
وبما أنّ لبنان لم يصدّق، بحسب الأصول الدستورية على إنشاء المحكمة، أيّ لم يصدّق عليها مجلس النواب ولم يوقّع عليها رئيس الجمهورية وينشرها، دخلت الوثيقة المرفقة مع القرار 1757 حيز التنفيذ. وثيقة، يطلب بموجبها مجلس الأمن من الأمين العام أن يتخذ، بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية، عند الاقتضاء، الخطوات والتدابير اللازمة لإنشاء المحكمة الخاصة في موعد قريب.
هناك من يرى بحق، عدم دستورية هذه المحكمة، لعدم احترامها الأصول القانونية المعتمدة في إقرار المعاهدات بين الدول، إذ أقرت بناءً على طلب صدر عن حكومة، هي أصلاً فاقدة للشرعية بنظر نصف اللبنانيين على الأقل. فضلاً عن أنّه لم تراعَ فيها (الاتفاقية) أصول انعقاد الاتفاقيات الدولية، لجهة ضرورة عرضها على مجلس النواب ونيل تصديقه عليها، تمهيداً لإقرارها ووضعها موضع التنفيذ من قبل رئيس الجمهورية.
ثمة رأي آخر يرى أنّ المحكمة دستورية، فهي لا تندرج في إطار المعاهدات بين الدول، وإنما هي قرار دولي صادر عن مجلس الأمن، بموجب الفصل السابع. وبالتالي لا يصح الحديث أو البحث في دستوريتها، طالما أنّها وجدت بموجب قرار ملزم صدر بإنشائها عن مجلس الأمن. وبحسب هذا الرأي، فإنّ الظروف التي رافقت إنشاء المحكمة، والدور الذي اضطلع به رئيس مجلس النواب في ذلك الوقت (تعطيل المجلس)، أدت إلى خروجها على هذا النحو، وجعل المحكمة تخرج عن الشكل الأولي الذي كانت عليه، وتتحول إلى كيان قانوني ملزم للبنان. شأنها بذلك، شأن القرارات الدولية التي تصدر عن مجلس الأمن، وبالتالي لا محل للحديث عن دستورية المحكمة.
إلا أنّ تبسيط الحديث عن دستورية المحكمة على هذا النحو، واعتبار أنّها تمثل قراراً ملزماً صادراً عن مجلس الأمن، يفتح المجال واسعاً أمام الكثير من التساؤلات التي تحكم العلاقة بين لبنان من جهة، ومجلس الأمن والمحكمة الدولية من جهة ثانية، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بموضوع السيادة الوطنية.
إضافة الى ذلك، فإنّ تميّز المحكمة الخاصة بلبنان عن سواها من المحاكم الجنائية الأخرى، ذات الطابع الدولي، أي في كونها الوحيدة التي أنشئت لمعالجة جريمة اغتيال سياسي، وصفت من قبل مجلس الأمن بالعمل الإرهابي في أكثر من مورد، يشير إلى وجود نية مسبقة لدى المجلس للتدخل. وذلك عبر إيجاد مبررات قانونية لجهة إحكام القبضة على التحقيق، وبالتالي إنشاء المحكمة الدولية، الأمر الذي يزيد من حدة التساؤلات القانونية والدستورية والشرعية.
القراءة المتأنية لما صدر عن مجلس الأمن، بخصوص المحكمة الخاصة بلبنان، ولا سيما القرار 1757، وما جاء فيه من حيثيات، فضلاً عما جاء في مندرجات القرار نفسه، وما تضمنه من بنود صدرت تحت الفصل السابع، يسمح بإجراء مناقشة قانونية بعيداً عن تعقيدات السياسة اللبنانية الداخلية، فضلاً عن تعقيدات السياسة الدولية وتجاذباتها. فما ورد في القرار، يمثّل مدخلاً كافياً لإلقاء الضوء، من أجل تحديد طبيعة المشكلة المتعلقة بمدى دستورية إنشاء المحكمة.
فمنطوق القرار 1757 لم ينشئ المحكمة الخاصة بلبنان، كما يتوهم البعض، بل وضعها موضع التنفيذ في فترة زمنية محددة، كما جاء في صدر الفقرة (أ)، من البند (1). وسنعرض لذلك بعد مناقشة الحيثيات التي استند إليها القرار نفسه.
ورد في حيثيات القرار 1757 أنّ مجلس الأمن «إذ يكرر دعوته إلى الاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت السلطة الوحيدة والحصرية للحكومة اللبنانية». ومناقشة هذه الحيثية، تثبت بأنّ القرار نفسه لم يلتزم بها ولم يحترم سيادة لبنان، بل عمد الى خرقها من خلال ما تضمنه من حيثيات وبنود مثّلت خرقاً واضحاً لهذه السيادة، ولا سيما من خلال اعتراف القرار غير المباشر، بمفاعيل الاتفاقية الخاصة بالمحكمة، عندما وضعها حيز التنفيذ، وهي لم تكن قد استكملت بعد مسارها القانوني والدستوري لإنشائها. وبالتالي خالف الأسس والمبادئ المعمول بها في لبنان، المتعلقة بإنشاء الاتفاقات الدولية.
أشار القرار في حيثياته الى أنّ التبرعات المالية لا تكفي وحدها لتمكين المحكمة من الاضطلاع بولايتها. إلا أنّه أشار الى جانب واحد من تمويل المحكمة، وهو المتعلق بالنسبة المالية المرتبطة بالتبرعات نفسها، أي 51 بالمئة منها، متجاهلاً ما نسبته 49 بالمئة، التي يجب على لبنان دفعها بموجب الاتفاق بينه وبين الأمم المتحدة. وبمعنى آخر، فإنّ القرار قد ألزم لبنان بصورة غير مباشرة، بنسبة الـ49 بالمئة، بمجرد وضع الاتفاق المبرم بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة موضع التنفيذ.
معنى ذلك، أنّ القرار تجاهل أصول الإنفاق المالي المقررة بحسب الدستور اللبناني، ولم يواجه معضلة عدم صحة تمويل المحكمة لبنانياً، لأنّ الاتفاقات والمعاهدات، التي تتضمن إلزاماً مالياً للبنان، يجب أن ينظر بها مجلس النواب اللبناني، صاحب السلطة الدستورية المنوط بها سنّ قوانين الجباية والإنفاق. وبالتالي، يمثّل القرار تدخلاً سافراً (بالمعنى الدستوري) في أعمال السيادة اللبنانية في ما يتعلق بتمويل المحكمة. وهو ما لا يمكن تقريره من قبل مجلس الأمن تحت الفصل السابع، لأنّه لا يكتسب صفة التعويض عن أضرار نتيجة أعمال عدوانية ارتكبتها الدولة اللبنانية، كما جرى الأمر مع العراق بالنسبة الى الكويت. بل هو إنفاق، يتعلق موضوعه بكشف فصول جريمة اغتيال ومحاكمة مجرمين في جريمة انحصرت تداعياتها في الدولة نفسها، وتضررت منها هي نفسها.
أيضاً، جاء في حيثيات القرار، إنّ «الاتفاق المبرم بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية، بشأن إنشاء محكمة خاصة للبنان، قد وقعته الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، على التوالي، في ٢٣ كانون الثاني/ يناير و٦ شباط/ فبراير ٢٠٠٧». وهذا يعني أنّ القرار قد استند الى اتفاق يفتقر بطبيعته إلى الشرعية الدستورية. وهو أمر اعترف به القرار نفسه، إذ حدد بأنّ الاتفاق الموقّع مع الحكومة اللبنانية، والقاضي بإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، هو اتفاق غير دستوري من خلال إقراره بأنّ ثمة خطوات ينبغي على الحكومة اللبنانية اتخاذها، كي يتصف بالشرعية الدستورية. وإقرار مجلس الأمن بأنّ إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان عن طريق العملية الدستورية يواجه عقبات حقيقية، دلالة واضحة واعتراف صريح من مجلس الأمن نفسه بعدم دستورية الاتفاق القاضي بإنشاء المحكمة. ومع ذلك، ورغم إقراره بعدم شرعية الاتفاق، وبأنّ إنشاء المحكمة عبر الطريق القانوني يواجه عقبات جدية، كان على مجلس الأمن سلوك أحد طريقين: إما إنشاء المحكمة مباشرة من خلال مجلس الأمن، بقرار واضح وصريح لا لبس فيه يصدر عنه تحت الفصل السابع دون الرجوع إلى الدولة اللبنانية؛ أو انتظار استكمال الخطوات القانونية والدستورية التي يتطلبها الدستور اللبناني، لإضفاء صفة الشرعية على هذا النوع من الاتفاقات، وذلك من خلال التصديق عليها تحت قبة البرلمان، وفقاً للأصول. غير أنّ مجلس الأمن لم يسلك أيّاً من الطريقين القانونيين، بل أصدر القرار ووضعه موضع التنفيذ رغم عدم شرعيته، وبالتالي فإنّ ما قام به هو تشريع عمل غير قانوني، وهذا لا يدخل في صلاحية مجلس الأمن بالمطلق. فتصديق المجلس على قرار إنشاء محكمة لم تتكوّن بعد من الناحية القانونية، ووضعها موضع التنفيذ، لا يعطيها الصفة القانونية، وبالتالي، الصفة الإلزامية.
ويبدو أنّ مبلوري القرار، ومن يقف خلفهم، قد تنبّهوا لهذه الإشكالية، فسعوا من خلال حيثيات القرار الى تلافي المعضلة، بالاستناد الى حالة العجلة، عند الإشارة الى «الرسالة الموجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة من رئيس وزراء لبنان (فؤاد السنيورة) التي أشار فيها إلى أنّ الأغلبية البرلمانية أعربت عن تأييدها للمحكمة والتمس عرض طلبه بإنشاء المحكمة الخاصة على اﻟﻤﺠلس على سبيل الاستعجال». وذلك، في محاولة منه لإعطاء قيمة قانونية لهذه الرسالة وما تضمنته من تأييد الأغلبية النيابية لإنشاء المحكمة، مستعيضاً بذلك عن الآلية الدستورية التي يتطلبها الدستور اللبناني في إبرام الاتفاقيات الدولية، والعنصر الأساسي في ذلك هو التذرع بعامل الاستعجال ـــ علماً بأنّ القرار الاتهامي لم يصدر بعد، والمحكمة لم تباشر عملها حتى اليوم، وهو ما ينفي عنها طابع العجلة ـــ رغم أنّ هذا التأييد (الأغلبية النيابية)، لم يجر وفق الأصول القانونية المعتمدة في لبنان، الأمر الذي يجعل منه فاقداً تلك القيمة القانونية، التي حاول مجلس الأمن، جاهداً إسناد قراره إليها ـــ العجلة والتأييد النيابي.
ولعل الغريب في هذه النقطة، هو إدراك المجلس مسبقاً أنّ الاتفاق مَعيب دستورياً، ويحتاج الى مسار قانوني، وأنّه من دون اعتماد هذا المسار فلا قيمة قانونية له، الأمر الذي دفع المجلس إلى القول: «يثني على الأمين العام لجهوده المتواصلة من أجل المضيّ، بمعيّة الحكومة اللبنانية، في اتخاذ آخر الخطوات اللازمة لإبرام الاتفاق على النحو المطلوب». وهنا يكمن التساؤل عن الدور الذي يقوم به مجلس الأمن، والهدف الذي يسعى إليه. هل هو مساعدة لبنان على كشف ملابسات الجريمة عبر تحقيق واضح وشفاف، أم هو في إنشاء المحكمة؟
القرار 1757 كما صدر، يعني بالضرورة حلول إرادة مجلس الأمن محل إرادة الدولة اللبنانية في إعطاء الموافقة بالنيابة عنها، على مضمون الاتفاق الموقّع بينها والأمم المتحدة. ذلك، رغم انتفاء الإرادة اللبنانية، التي لم يعبر عنها أساساً عبر المسارات الدستورية اللبنانية. فقد وضع المجلس نفسه ممثلاً لطرفي العقد (المتعلق بإنشاء المحكمة)، ومعبراً عن إرادتهما معاً، لجهة الإيجاب والقبول، وهو أمر لا يستقيم مع الاتفاقات الدولية، فضلاً عما يمثله من انتقاص لمبدأ السيادة الذي تتمتع به الدول في علاقاتها مع الآخرين. كما أنّه يمثل نقيضاً لما ورد في حيثيات القرار نفسه، بما يرتبط بالاحترام التام للسيادة اللبنانية.
ولعل آخر ما يمكن التوقف عنده وتسليط الضوء عليه، تلك المسلّمة التي أشار إليها مجلس الأمن في قراره، من أنّ «جميع الأطراف المعنية أكدت من جديد اتفاقها من حيث المبدأ على إنشاء المحكمة». وهو ما كان يستوجب من مجلس الأمن الامتناع عن إصدار هذا القرار، تحت الفصل السابع، على اعتبار أنّه يسلم من حيث المبدأ بأنّ جميع الأطراف المعنية في لبنان، لا تعارض أصل إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، وأنّ المشكلة القائمة بين الأطراف السياسية هي مشكلة داخلية، تتمحور حول كيفية مناقشة بنود الاتفاق على إنشاء المحكمة ونظامها. لذلك، فإنّ إصدار القرار في ظل ظروف كهذه، يمثّل تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة اللبنانية، ويخرج عن صلاحيات مجلس الأمن، كما تنص المادة (2/7) من ميثاق الأمم المتحدة، من أنّه ليس في الميثاق ما يسوّغ التدخل في أيّ شأن يدخل في السلطان الداخلي للدول.
لقد كان الخلاف السياسي على بنود المحكمة ونظامها قابلاً للحل، فيما لو أعطي الأفرقاء السياسيون في لبنان الوقت الكافي لمناقشة بنودها، فضلاً عن أنه يمثل حقاً لكل القوى السياسية التي ترى في جريمة الاغتيال مشروع انتداب جديد للبنان. وبالتالي، فإنّ إصدار القرار يمثل تدخلاً غير مشروع، وخاصة أنّ ذلك يمثّل حرماناً لبعض القوى السياسية من حقها في مناقشة الاتفاق على المحكمة، رغم كونها ممثلة في الحكومة ومجلس النواب على حد سواء، إذ يدخل ذلك في صميم عملهما. ومثل هذا الأمر يمثل استهتاراً بكل القواعد والقيم القانونية التي تحكم العلاقات بين الدول.
كما تبين، فإنّ حيثيات القرار 1757، التي استند إليها مجلس الأمن في إصدار قراره، ليست سوى حيثيات واهية من ناحية قانونية، وهو ما يفقد القرار نفسه قيمته القانونية والإلزامية، فما بني على باطل فهو باطل.
أما ما يتعلق بمضمون القرار، فقد سقط من النقاش القانوني والدستوري الجاري في لبنان أنّ مجلس الأمن لم ينشئ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، كما يتوهم البعض، بل جلّ ما قام به هو وضعها موضع التنفيذ. فأشارت الفقرة (أ) من البند الأول، إلى الموعد الذي قرره مجلس الأمن لبدء سريان العمل بأحكام الوثيقة، دون غيره من الأمور الأخرى المتعلقة بإنشاء المحكمة. وفي ذلك فرق كبير جداً من الناحية القانونية والإلزامية، إذ أشارت الى أنّه «يبدأ سريان أحكام الوثيقة المرفقة بإنشاء محكمة خاصة للبنان، بما في ذلك الضميمة الملحقة بها، اعتباراً من 10حزيران/ يونيو 2007». والوثيقة المرفقة بإنشاء المحكمة، المشار إليها، هي الاتفاق المعقود بين الأمم المتحدة والجمهورية اللبنانية (بطريقة غير دستورية). أما الضميمة الملحقة بها فهي النظام الأساسي للمحكمة المزمع إنشاؤها.
لقد قرر مجلس الأمن موعداً لسريان أحكام الوثيقة رغم إقراره المسبق بعدم دستوريّتها، وهو ما أكده القرار في إشارته إلى الآتي: «أكد رئيس المجلس في رسالته المؤرخة في ٢١ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٠٦، التي أشار فيها إلى الإحاطة التي قدمها المستشار القانوني في ٢ أيار/ مايو ٢٠٠٧ التي لاحظ فيها أنّ إنشاء المحكمة عن طريق العملية الدستورية يواجه عقبات حقيقية»، ويقصد من تلك العقبات، الخطوات الدستورية التي كان ينبغي على الدولة اللبنانية سلوكها لإقرار الاتفاق.
معنى ذلك أنّ مجلس الأمن أقرّ الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، رغم إدراكه عدم دستوريته، إذ كان على يقين بأنّه يجب أن تأخذ هذه المحكمة في إجراء تشكيلها صفة الاتفاقية الدولية، كما ينص عليها كتاب المستشار القانوني الآنف الذكر، وفقاً لأحكام الدستور اللبناني، أي المادة 52 منه، (التي تنص على عدم نفاذ المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بماليّة الدولة... إلا بعد موافقة مجلس النواب). وبالتالي، فإنّ عدم دستورية هذا الاتفاق ينفي أصل وجوده، ما دام أنّه لم يستكمل الخطوات الدستورية الضرورية لإقراره، ما يجعل من وجوده منتفياً. أي أن المحكمة من ناحية قانونية منتفية الوجود، وبالتالي لا تكتسب الشخصية القانونية.
وما ورد في منطوق الفقرة (أ) من البند الأول من القرار المذكور يصبح بذلك من الناحية القانونية، غير ذي قيمة، لأنّ الفقرة نفسها تحدد موعداً لسريان اتفاق غير موجود أساساً من الناحية القانونية، إذ لم يجرِ تظهيره إلى الخارج عن طريق اعتماد الآلية الدستورية. كان الأمر ليكون مختلفاً اختلافاً جذرياً فيما لو عمد مجلس الأمن الى إنشاء المحكمة بدلاً من تحديد موعد سريان تنفيذها.
تتحدث الفقرتان (ب) و(ج) من البند الأول، في قضايا إجرائية، لجهة تأمين مقر المحكمة وتمويلها. أما البند الثاني من القرار فينص على موعد بدء المحكمة لعملها في تاريخ يحدده الأمين العام بالتشاور مع الحكومة اللبنانية، علماً بأنّ نتيجة مشاوراته غير ملزمة، على أن يراعي التقدم المحرز في أعمال لجنة التحقيق. مع ذلك، فإنّ هذا البند يفتقر بدوره الى القيمة القانونية، لأنّه يتناول تحديد موعد لبدء أعمال محكمة، هي في الأساس غير منشأة من الناحية القانونية.
أما البند الثالث من القرار فيطلب من الأمين العام للأمم المتحدة اتخاذ ما يلزم من الخطوات والتدابير لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان في موعد قريب، على أن يكون هناك تنسيق بينه وبين الحكومة اللبنانية عند الاقتضاء. ورغم أنّ البعض قد يفسر ذلك على أنّه جاء كتعويض عما ورد من نقص قانوني في البند الأول من القرار، لجهة تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بإنشاء المحكمة، إلا أنّ هذا التكليف يرتبط باتخاذ القرارات الإجرائية الآيلة إلى إخراج المحكمة إلى حيّز التنفيذ، بالاستناد إلى الاتفاق الموقّع مع الحكومة اللبنانية، لا إلى إنشائها بالمطلق، كما كان ينبغي أن يكون عليه القرار القاضي بإنشاء المحكمة من ناحية قانونية.
معنى كل ذلك، أنّه ليس ثمة إلزام قانوني بموجب القرار 1757، للدولة اللبنانية، سواء بالنسبة الى المشاركة في إنشائها، أو المشاركة في إجراءاتها من خلال انتداب قضاة لبنانيين، أو في تمويلها، ما يتيح للبنان من الناحية القانونية، مساحة واسعة جداً، كي يتحرك من خلالها، لمواجهة تداعيات المحكمة الخاصة بلبنان ومساراتها، فيما لو أراد ذلك.
إنّ قراءة قانونية متأنية لبنود هذا القرار وما استند إليها من حيثيات تفتقر في تحليلها إلى الدقة والموضوعية، تبيّن أنّه، رغم صدوره تحت الفصل السابع، فهو قرار ضعيف بطبيعته وغير ملزم في ما تضمنه من قرارات للدولة اللبنانية. يفتقر القرار في كلّ جوانبه إلى عنصر الإلزام، سواء من حيث التشكيل أو المشاركة أو التمويل للمحكمة، فضلاً عن أنه قد استند إلى حيثيات هي من الناحية القانونية تفتقر إلى الشرعية الدستورية. وهو ما من شأنه أن يتيح للبنان التحلل من جميع المراسلات السابقة (مراسلات الرئيس السنيورة) على إنشاء المحكمة، سواء مع الأمم المتحدة أو مع مجلس الأمن، على اعتبار أنّ هذه المراسلات لم تتخذ شكل الاتفاقات القانونية وفق ما يقرره الدستور اللبناني. وهو ما تنتفي معه شرعية الاتفاقات التي عقدت بين الجانبين (الأمم المتحدة ولبنان)، وبالتالي تفتح الطريق من الناحية القانونية في لبنان، لأصحاب القرار السياسي ومبلوريه، في استكشاف الحلول الممكنة لأزمة المحكمة الخاصة بلبنان، التي يمكنها، إذا ما استمرت، أن تطيح كل ما بقي من هذا البلد، وتدخله في أتون الفوضى التي لا يعلم نتيجتها أحد.
* أستاذ جامعي في الحقوق