لا شكّ أنّ غياب المسيحيّين عن الأرض المقدّسة، ونعني لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، يُفقد الإسلام صورته المنفتحة على العالم، ويشوّه صورة الغرب الذي يسعى إلى عداء مع العالم الإسلامي دون أن يكترث للوجود المسيحي في المشرق. لقد أصبح عدد اللبنانيين المسيحيين في دول الاغتراب، وخاصةً في القارة الأميركية، أكبر بكثير من عدد المقيمين في لبنان، وتحديداً من أبناء الكنائس المارونية والكاثوليكية.
كما بيّنت التطورات الإقليمية والجيوسياسية منذ 1900 حتى اليوم أنّ الأمر ليس على ما يرام بالنسبة إلى الوجود المسيحي في المشرق. وحتى 1989، لم يكن للمسيحيين المشرقيين أيّ وزن سياسي في المشرق الأوسع، خارج لبنان، لكن مذ ذاك التاريخ بدأ هذا الوزن يتهدّد في لبنان أيضاً.
كان الرئيس الراحل إلياس سركيس يردّ دائماً على دعوات التقوقع اللبناني التي ازدهرت عامي 1976 و1977 بقوله للمسيحيين في لبنان إنّ «العروبة قدرُنا». ذلك أنّ المسلم اللبناني عربي الانتماء، حسب تقاليده وانتمائه عند الولادة، والمسيحي اللبناني يصبح عربياً وفقاً للضرورة التاريخية والاجتماعية والسياسية. ويكون بالتالي «ماضي لبنان مارونياً وحاضره موضع نزاع بين آراء وأفق متعددة، ومستقبله عربياً». هكذا إذاً يمكن الكلام عن مساهمة جديدة للموارنة في نهضة عربية جديدة للقرن الحادي والعشرين، ويكون انتماؤهم إلى العرب قد حصل باقتناع وتجرّد لا عبر اضطهاد وقدر مفروض. المسيحيون العرب هم حاجة عربية وإسلاميّة، والمساهمة المسيحية الأساسية في القرن العشرين في لبنان والمشرق كانت في نشر فلسفة الدولة الحديثة القائمة على المساواة والعدل بصرف النظر عن ديانة المواطن، والنظام البرلماني وفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. والإسلام هو جزء من شخصية المسيحي المشرقي، وهذا ما حاول شرحه مثقفون لبنانيون مسيحيون للعقل الغربي، حين تحدّثوا عن معنى أن يكون المرء عربياً ومسيحيّاً في آن واحد، وهو أمر لا يزال غير واضح حتى لزعماء العالم الغربي، ومجهولاً تماماً على المستوى الشعبي في أوروبا وأميركا.
ضعفُ المسيحيين له أسباب عديدة. ثمّة دول عربية لم تقدّم تسهيلات ليعيش المسيحيون بكرامة وليمارسوا شعائرهم الدينية بحريّة ويفتحوا دور عبادة ومؤسسات خاصة أو عامة. وبعض هذه الدول صادر مدارس المسيحيين وجمعياتهم، كما تحوّلت هذه الدول إلى الاشتراكية العربية والتأميم في اقتصادها ونظامها السياسي، ممّا أفقد الأقليات المسيحية قدرتها المالية والعلمية والثقافية، وبعث عند بعض المسيحيين عقدة الخوف والاضطهاد التاريخي، كأنّ القرون التي مضت عادت وكأنّها فصل مستمرّ. لبنان في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وخاصةً بعد 11 أيلول 2001، هو النموذج الوحيد الذي تسلّح به العرب لمواجهة الإعلام الغربي القاسي بحقّهم. ها هنا دولة عربية يعيش فيها أبناء 18 طائفة مسيحية وإسلامية. وحتى داخل لبنان، مثّل المسيحيون نسغ الجغرافية في عروق البلاد، فَهُم، وخاصةً الموارنة، كانوا منتشرين في سائر المحافظات وفي قرى وبلدات مختلطة مع الشيعة والسنّة والدروز من عكار شمالاً إلى عين إبل جنوباً، فيما يصعب تسمية قرية يعيش فيها سنّة وشيعة ودروز جنباً إلى جنب. الانتشار المسيحي في أرجاء لبنان، وهو بلد «موزاييك طوائف»، يجعلهم الإسمنت الذي يُلصق الكل. ولكن إذا غادر المسيحيون لبنان، فماذا يحصل لهذا الموزاييك؟ يشكو الدكتور محمد السمّاك من أنّ الحياة العامة اللبنانية دارت في حلقة مفرغة من العمل الطائفي المصلحي، ولم تنتقل إلى عمل جماعي إسلامي ـــــ مسيحي يهدف أولاً إلى تثقيف المجتمع العربي المحيط، وأنّ المثقّف المسلم يحتاج إلى المثقّف المسيحي لتدارك صعود الأصوليّات، وفشل العرب والعالم الثالث معه في مواجهة الهيمنة والهجمة الغربية، دفاعاً عن الحداثة ومُثُل الحريّة والديموقراطية.
منذ الخمسينات من القرن العشرين والوجود المسيحي في المشرق مهدّد بالذبول وحتى بالانقراض، وقد انقرض فعلاً في بعض البلدان. إنّ معدلات الولادات المتدنّية، مربوطة بهجرة متفاقمة في أوساط المسيحيين إلى أوروبا والأميركيتين وأوستراليا وهجرة الأدمغة، تؤشر إلى احتمال الامّحاء التام للوجود المسيحي في المشرق بحلول عام 2050. وصورة الوضع الحالي بالنسبة إلى المسيحيين اللبنانيين والعرب في المغتربات ليست ورديّة أيضاً. ذلك أنّ المسيحيين المشرقيين يندمجون بسرعة في المجتمعات الغربية، وأبناؤهم يندمجون أكثر لأنّهم وُلدوا في تلك المجتمعات، فيما مَن بقي من مسيحيي لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين من جماعات وكنائس وقادة ومثقفين مصاب بقلق كبير على المستقبل. وكل هذا يعني حكماً أنّ المسيحيين، مع استمرار وجودهم المتضائل، إنما باتوا يمثّلون أقليات لا شأن لها في المشرق. وذلك باستثناء لبنان، حيث يتآكل نفوذهم ويُدفعون إلى هامش السلطة السياسية، وتتضاءل مساهمتهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتكاد تكون خصوصيتهم كجماعة دينية مهددة، وحقهم في التميّز والاختلاف موضع تساؤل، وتعبيرهم الثقافي والفني إلى العرب والعالم يُنتقد، ونمط عيشهم ولباسهم موضع تحدّ.
وقد يبدو الأمر كأنّ هذا المصير يهدّد المسيحيين اللبنانيين والمشرقيين دون سواهم فيما هي مسألة تؤثّر في مستقبل العرب ونظامهم وثقافتهم ودورهم في العالم. ذلك أنّ تهميش المسيحيين في مجتمع يغرق في الأسلمة، أكانت أسلمة عددية ديموغرافية أم اجتماعية أم ثقافية، يُمكن ترجمته إلى تراجع للديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، فيصيب هذا التراجع المجتمع كله.
لقد عجزت معظم الدول العربية عن ابتكار عقد اجتماعي تلتقي عليه الأغلبية مع الأقليات، ويبدو العقد الاجتماعي اللبناني أكثرها حريّة وديموقراطية. توقّف تطوّر مصر العلماني الديموقراطي عند محصلة ثورة 1919 حول تآخي المسلم والقبطي وعهد عبد الناصر في مطلع الستينات. ثمّ إنّ نهاية البعث في العراق وغياب البديل الديموقراطي والاحتلال الأميركي سجّلت في نهاية العقد الأول من القرن العشرين اضمحلالاً قاتلاً للوجود المسيحي في أرض الرافدين. إذاً، يبقى لبنان وسوريا بين العرب كنموذج لتجربة التعدّدية. وفي بلد تعددي طائفياً كلبنان، يجب أن تصبح العوامل الديموغرافية والثقافية والاقتصادية مصادر قوّة لأصحابها، لا أن تحاول كل فئة الدفع بطموحاتها في النظام على حساب المجموع (كما حصل في اتفاق الدوحة مثلاً).
ولا يعلم الجميع أنّ اختفاء المسيحيين في المشرق إنما هو تطبيق عملي لنبوءة صراع الحضارات السطحية، وهي القضاء على الشريك الأكبر، المسيحي اللبناني والعربي، في نهضة العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر ووسيط مفيد في علاقات العرب مع أوروبا وأميركا، طبعاً هناك وجود مسيحي مهم في سوريا والعراق ومصر والسودان، لكنّ التجربة اللبنانية هي التي ستحدّد مصير كل المسيحيين في المنطقة. للمسيحيين نفوذ في لبنان يمكن وضعه في خدمة الحداثة العربية فوراً. أما المسيحية في مصر، فتحتاج إلى فترة أطول حتى تقبل الأغلبية المسلمة فيها شراكة مسيحية شبيهة بتلك القائمة في لبنان. لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي (حتى كتابة هذه السطور) يتمتّع فيه المسيحيون بنفوذ سياسي ووجود ثقافي واجتماعي واقتصادي مميّز، وبيئة ديموقراطية نسبية في التعبير الإعلامي والحزبي والنقابي، الذي يتمتّع به جميع اللبنانيين.
الفشل في التوصّل إلى حلول دائمة في النظام السياسي اللبناني وربما الوصول إلى العنف لن يدفع تبعته مسيحيو لبنان فحسب، بل سائر نصارى المشرق أيضاً. وسيدفع إلى تسارع هجرتهم، وخاصةً أنّ دول الغرب أصبحت أكثر انفتاحاً على قبول مهاجرين مسيحيين مشرقيين والانغلاق على المسلمين.
* أستاذ جامعي لبناني مقيم في كندا