منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بات الحديث عن المطالب الاقتصاديّة والاحتجاجات الطبقيّة جزءاً من اللغة التي دُعيت خشبيّة. اختفى «المناضلون» عن الساحة، ليحلّ مكانهم «الناشطون الاجتماعيّون» الذين حملت أجندتهم عناوين كثيرة ومجزّأة لا مكان فيها للخبز أو الطحين. دوافع كثيرة وظروف متعدّدة وقفت وراء هذه التحوّلات في العالم كما في منطقتنا. إلا أنّ جوهر الأمر يمكن ردّه إلى الانتقام من المرحلة السابقة، يوم حاول نوع من الماركسيّة اختزال التاريخ بالصراع الطبقيّ، وتخيُّل البنية الطبقيّة كقاعدة صلبة يمكن اعتبار كلّ ما عداها مجرّد قشور تخفي حقيقة الصراع الجوهريّ. هكذا كانت عناوين التمييز الجندري أو العرقي والعصبيّات الطائفيّة والحريّات العامّة والخاصّة لا تكتسب معناها، وفقاً لتلك الماركسيّة الساذجة (أو المبتذلة)، ما لم تترجم إلى اللغة الطبقيّة. وما تعصى ترجمته، لا يستحقّ النضال من أجله.لم تسمح الكرّاسات السوفياتيّة بتلويث أيديولوجيّتها بنظريّات ما عُرف بـ«الماركسيّة الغربيّة» التي حاولت صياغة علاقات أكثر تعقيداً بين المسارات الطبقيّة وسائر العلاقات الاجتماعيّة. فسهّلت بذلك مهمّة من رفعوا بعد انهيار جدار برلين شعارات «نهاية التاريخ» و«موت الأيديولوجيا»، والتبشير بصراع الحضارات. وأسهم ضرب النقابات والإعلانات المظفّرة للنيوليبراليّة في طمس حقيقة ما يجري في مدن الصفيح ومشاغل العرق وأروقة صندوق النقد الدولي.
لكن تماماً كما لم ينجح القهر الطبقي في مصادرة كل أشكال الاضطهاد الأخرى، لا يمكن تهميش أثر المسارات الطبقيّة على الحياة اليوميّة للبشر. على الأقلّ، لا يمكن الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية. ولعلّ ما يحدث اليوم في الجزائر وتونس يدخل في هذا السياق. فبعد انتفاضات لا يخفى طابعها الطبقيّ، ها هي حكومات الفساد والاستبداد تبدي استعدادها لإعادة حساباتها بالنسبة إلى أسعار السلع الغذائيّة ومكافحة البطالة.
ومن المضحك المبكي متابعة تصريح وزير التجارة الجزائري، مصطفى بن بادة، الذي اكتشف فجأة أنّ «ثمّة دولاً تنتمي إلى منظّمة التجارة العالميّة تحتكر بعض القطاعات الاستراتيجيّة كالسكك الحديدية والطيران، فما بالك إذا تعلق الأمر بالقوت اليومي». وتوقّع الوزير أن تلجأ الحكومة «إلى بسط سيطرتها من جديد على إنتاج المواد الغذائية الاستراتيجية واستيرادها بعد الاحتجاجات الشعبية».
من المسموح إذاً أن تتدخّل الدولة في الاقتصاد؟ يا لروعة هذا الاكتشاف بعد أعوام من السياسات التي سمّيت زوراً «تنمويّة». أمّا في لبنان، فيبدو أنّ مآثر فؤاد السنيورة لا تقتصر على المحكمة الدوليّة. راقبوا أسعار البنزين.