خلال المنتدى الاقتصادي الذي انعقد الأسبوع الماضي، أكّد المسؤولون اللبنانيون أنّ الاقتصاد اللبناني محصّن ضد الأزمة الإقليمية. ليست هذه المرة الأولى التي يتفوّه فيها المسؤولون بادّعاءات غير مثبتة، إن لم نقل زائفة تماماً. والواقع أنّه خلال فترة اعتصام قوى 8 آذار عام 2007_2008 الذي استمر 18 شهراً، توصّل المسؤولون إلى الخلاصة نفسها: الاقتصاد اللبناني مرن. ليس برهان الحصانة زائفاً فحسب، بل على العكس، ثمن عدم الاستقرار السياسي باهظ جداً، سواء تأتى من مصادر محلية أو إقليمية. فمنذ اندلاع الثورة في سوريا، اتخذ الوضع الاقتصادي في لبنان منحى تنازلياً.
تراجع معدّل النمو الاقتصادي إلى 2% هذا العام، وهبطت الصادرات بنسبة 30 في المئة وانخفض الاستثمار الأجنبي المباشر بأكثر من النصف مقارنة بالسنوات الماضية. كذلك، انخفض أخيراً معدّل نمو الودائع المصرفية، الذي يعتبره بعض المسؤولين والمصرفيين مقياساً للرفاهية الاقتصادية للدولة، ليبلغ نصف ما كان عليه عادة. إن لم يكن ذلك كله كافياً لدفع المسؤولين إلى القلق، وصلت ثقة المستهلك إلى أدنى مستوياتها في حزيران 2012، استناداً إلى مؤشر بنك بيبلوس والجامعة الأميركية في بيروت لثقة المستهلك. تكلفات الأداء الاقتصادي الضعيف على كل مواطن باهظة، لكنها تُحتسَب بطريقة سيّئة. تظهر دراسة أجرتها حديثاً نسرين سالتي لصالح المركز اللبناني للدراسات السياسية أنّ عدم الاستقرار السياسي خفض دخل كل مواطن بنسبة 5.6 في المئة سنوياً بين عامي 2005 و2007. يوازي ذلك فعلياً خسارة بقيمة 665$ لكل شخص عام 2006 وبقيمة 640$ عام 2007، وهو ليس بمبلغ ضئيل بالنسبة إلى العائلات التي تعيش بدخلٍ متواضع. غير أنّ التكلفات الاقتصادية المترتبة على عدم الاستقرار السياسي باتت أكبر اليوم. مع اشتعال سوريا، تضاعفت التأثيرات على الاقتصاد اللبناني. فالمناخ ليس مؤاتياً للاستثمار أو للاستهلاك، بما يتعدى السلع الضرورية، بالنسبة إلى معظم اللبنانيين. المستثمرون المحليون والأجانب أقل ميلاً إلى إنجاز مشاريع جديدة، والسياح الخليجيون قلقون على سلامتهم. كذلك انقطعت طرق التصدير عبر سوريا وارتفعت التكلفات، فضلاً عن أنّ البطالة والهجرة إلى ارتفاع. أضف إلى ذلك كله، الغموض السياسي في لبنان الذي يرزح تحت عبء سوريا وتدفق اللاجئين والتحديات الجديدة التي تواجهنا.
بداية، يرهق تدفق 100 ألف لاجئ على الأقل، إضافة إلى عائلات 300 ألف عامل سوري مهاجر، البنية التحتية للبنان الضعيفة والمنهارة أصلاً. وكلما استمرت الأزمة السورية، سيجتاز المزيد من اللاجئين الحدود، ومن المرجّح أنّهم سيكونون أكثر فقراً ممن هربوا قبلهم. سيكون التركيز في الغالب على المأوى والخدمات الأساسية. يُذكر أنّ قدرة الحكومة على تحديد مكان هؤلاء ضعيفة بما أنّ الكثيرين منهم يرفضون أن يُسجَّلوا كلاجئين خوفاً من أي انتقام سياسي أو طائفي. فضلاً عن ذلك، سيسهم تأثير اللاجئين على نحو غير متكافئ في إيذاء اللبنانيين الفقراء وذوي المهارات المتدنية، إذ إنّ الزيادة في عرض العمل من قبل اليد العاملة غير الماهرة ستؤدي إلى خفض الأجور وتدفع المزيد من اللبنانيين خارج سوق العمل، نحو البطالة. إضافة إلى هذا التنافس الاقتصادي، هناك توترٌ طائفي قائم في اقتصاد ينمو ببطء ويتبنّى وصفة أكيدة لضمان عدم الاستقرار الاجتماعي.
وفيما يغلي الشمال والبقاع بتوترات اجتماعية وطائفية، يبدو المسؤولون في وزارة المال غير مدركين أو غير آبهين بالوضع على الأرض. اقترحت الوزارة حديثاً فرض ضرائب جديدة تستهدف إلى حد كبير الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع، فيما تبقى الشرائح الأكثر ثراءً مُعفاة إلى حد كبير. في الوقت نفسه، فشلت الحكومة في تأمين تمويل تعديل سلسلة الرتب والرواتب الذي تمّ التصديق عليه منذ أشهر.
لا تقع مسؤولية مواجهة هذه التحديات على عاتق الحكومة وحدها. فكافة الأفرقاء السياسيين، سواء كانوا داخل الحكومة أو خارجها، يتحملون المسؤولية. على من هم في السلطة أن يعالجوا التحديات المقبلة أو يخففوها، في حين ينبغي على كافة اللاعبين أن يحاولوا ويخففوا من التوتر والاضطراب الذي يهدد شوارع بيروت وطرابلس. على الفريقين أن يعملا معاً على تبنّي قانونٍ انتخابي جديد يضمن التمثيل السياسي وينظم الانتخابات البرلمانية في الوقت المحدد. كذلك، على الحكومة أن تخفض الأعباء على المواطنين من خلال الوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق بتعديلات سلسلة الرتب والرواتب وعدم فرض ضرائب إضافية عليهم.
تماماً كما لعدم الاستقرار السياسي ثمن، تنتج أرباح اقتصادية من الاستقرار السياسي؛ فقد أظهرت الدراسة التي أجراها المركز اللبناني للدراسات السياسية أنّ الاقتصاد حقق نمواً بنسبة 6% بعد اتفاق الدوحة. مع عجز الطبقة الحاكمة عن تحمّل مسؤولياتها، يلقي الضيق الاقتصادي المسيطر بثقله على الجميع، بغض النظر عن انتمائهم السياسي. لكن المخجل أنّ الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع هي التي تدفع الثمن بطرقٍ كثيرة.
* مدير المركز اللبناني للدراسات (عن الموقع الإلكتروني للمركز)
ترجمة باسكال شلهوب