لماذا وجدت اللغة ولم يكن غيابها هو البديل؟ إن السؤال تدخّل قهري، أداة من شأنها أن تقيم علاقة بين المستنطِق والمستنطَق. وقد لا يكون هدفه الإخبار والتواصل أو استجلاب معرفة، إنه مرتهن بشكل أو بآخر بعلاقة السلطة اللغوية.ولأنّ نظام اللغة لا يكون منفصلاً ولا مجرداً، فإنّه يتمفصل ويتمحور حول شيء ما، هذا الشيء هو ما سيدعوه ميلنر «النقاط الذاتية» وهي النقاط التي يعود إليها النظام اللغوي باعتبارها الحدود «الجوانية» من نظام اللغة.

يرى «لاكان» اللغة تكرار اللاوعي، وفي ثقافة فصاحية لغوية كالثقافة العربية ستحمل اللغة الثقافة للامتثال هي الأخرى لحدود جوانية ضمن نظامها الخاص تكون بمثابة النقاط الذاتية التي لا يكاد السؤال يفارقها حتى يعود إليها.
لعب النص بهذا المعنى دور «جواني نظام اللغة» في الثقافة العربية الإسلامية، فيما كان على السؤال أن يعود إليه على الدوام ــ منكراً ذاته ــ ليستنطقه عبر أنّات الزمان. وما بين النص والسؤال وقف المثقف ليحمل مهمة الجَسر بين دفتي هذا العالم اللغوي. أي دور يلعبه السؤال والسائل في بناء الواقع واللغة؟
تاريخياً، حل السؤال في المدوّنة العربية موضع اضطراب، في وقت كان فيه على السلطة ــ فترة عصر التدوين ــ استكمال وراثتها الشرعية بتطويع الشريعة وتشريع الغلبة، والسؤال ــ منبع كل التغييرات العفوية واللامعقولة في اللغة ــ سيفرض شروطه لا محال عندما يتحوّل متكلماً، لذا كان من اللازم قوننة السؤال بحصر الاجتهاد ووضع مدوّنة رسمية تلزم كلّاً من الفقيه والكاتب والفيلسوف بضرورات السياسة. ولئن وجد الفقيه طريقاً يسلك به للعوام، فإن الكاتب والفيلسوف ظلا مناط آصرة السلطة، يتمكن الأخير حيث تترهّل، ويتأزر الأول حيث تتمركز وتتقوى.
يتحسر ابن العميد مُعاصر التوحيدي على زمن الحكيم الأول «أرسطو»، لقد كانت الفلسفة سلطة (متى تصبح الفلسفة سلطة في عالمنا العربي؟)، فيما يستدرج ابن المقفع الواقع لنظامه الخاص بحذاقة الكاتب والمفكر السياسي في آن معاً. لم تكن كليلة ودمنة مدوّنة ابداع شخصي بقدر ما شكلت إطاراً مرجعياً للثقافة في فِعالها السياسي والواقعي. لماذا امتثل المثقف للّغة دون سواها؟ وكيف انتصر الرمز دون غيره في خطاب الثقافه العربية؟ إن إقصاء السؤال واعتصام الخطابة باللامتعيّن سيمنح الفكرة شيئاً من الحرية الوحشية والمستمرة قبال عنف الأشياء، كما أنّها ستقي المثقف بطش الحاكم وألم الواقع.
هكذا سيبدع المثقف بتزخيم أشيائه ظلال الافتراضات والخيالات. ولئن أسكن المثقف قديماً عالمَه الرمز وأُنطقه لسان حال الحيوان، فإن المثقف المعاصر ــ هو الآخر ــ أبدع في ابتكار وتنويع وسائل دفاعه المضاد، ضد عنف الأشياء، ثم صيّر هذا العالم الرمزي حقيقة تلوي عنق الواقع، فاستبدل السؤال بالمذهب أو الأيديولوجياً مدعياً قدرة الأخيرة على اكتشاف طريقة ما في فعل الجَسر على الأشياء.
يغيب السؤال مجدداً ومعه سؤال الفكر، فيما يعيد المثقف المعاصر انتاج الواقع على هدي من رؤى الماضي. سينسحب الواقع إلى ما دون بلاد الترك والمغرب (حدي هذه المعمورة في الأدب الفلسفي). فيما يُستدرج السؤال ويُعقل في ما دون أطراف المعمورة، والمعمورة هنا تتجاوز حيّز المكان. إنها ذاتي التسآل المتنكّف عن «عتبات الأبواب المغلّقة»، باستعارة من مطاع صفدي.
لقد عبرت الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة في أطوار ثلاثة، كان الأول منها مع حملة بونابارت على مصر مطلع القرن التاسع عشر، وانتهى به المطاف نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم. اقترن الخطاب الثقافي لهذه المرحلة بسؤال النهضة والثنائيات الحضارية (لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟/ شكيب ارسلان)، فيما تجذرت «الإسلامية» بالخطابة التي تذكّر وتحذّر حسب الأفغاني، والهادفة لاستخراج قوّة حيّة تسري إلى النفس بالعمل على حدّ قول العقّاد. إنّها ومنذ هذه اللحظة ستسير في علاقة فصل ورد وممانعة في علاقتها بالكونية والحداثة، لقد عاد الخطاب مرة أخرى «للجواني»، للجواني من نظام اللغة، لكن السؤال الذاتي وحده لم يعد من لاجسدانيته المنبسطة (بما نريد أن نفكّر؟).
«وللعلمانية» هي الأخرى خطاب وسلطة، كانت مجلة المستقبل الصادرة في القاهرة أنموذجاً للسلطة الخطابية العلمانية. يُشهد «للعلمانية»، في هذه المرحلة، كتابية الخطاب مستفيدة من ميراث التعليم في دويلات التنظيمات العثمانية وثقافة الطبقة الرفيعة، فجاء المثقف العلماني على شاكلة نظيره العصري في رواية «الآباء والبنون» لتورغييف (إحدى أعظم روايات القرن التاسع عشر)، لقد غالبت داروينية شبلي الشميّل كتابات البارون دولباك، مثلما غالب سلامة موسى أدب برنارد شو بنقده الوجهة الدينية. سنّت العلمانية في هذه المرحلة بالذات سنّة المثقف الكتابي. ستلازم هذه الصورة مخيال المثقف على امتداد قرن ونيف من الزمن، يكفي أن يطلع الفرد منا على غلاف كتاب «صور المثقف» لإدوارد سعيد ليجد مثال الارستقراطية الطبيعية التي نادى بها مثقفو إنكلترا من أمثال غيسينغ وولز، ووندام لويس. إنّه المثقف سيد المكان وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة يقول إدوارد سعيد، إنه وارث اللغة ومطوّعها في آن معاً.
لم يكن لعصر العلمانية أن يبلغ مراميه، كما لم يكن للإسلامية أن تنجز مقاصدها، سيشكل انتحار العالم الرياضي «إسماعيل أدهم» نهاية الأربعينيات إعلاناً لنهاية الطرح العلماني كبديل نهضوي، فيما سيشكل حسن البنا ظاهرة ميلاد الطور الثاني من أطوار الثقافة العربية الإسلامية. الإسلام كظاهرة مجتمعية اولاً، لقد نجحت الدولة القومية بفرض نظامها العميق في المجتمع لتعيد معه إنتاج الخطاب الثقافي بتوزيع جديد للأدوار بين المتكلم والمُخاطب. ليست الصدفة وحدها من جمعت هزيمة 1967 ومشروع «قضايا معاصرة» لحسن حنفي، ثمة ارتحال في الدور الخطابي كان قد بدأ يعلن وداع حقبة المرجعيات الموسوعية، تلك التي اتسم بها خطاب النهضة مطلع القرن المنصرم. كان انتقال التموضع الخطابي إلى الصحف يعد بازدياد ترداد العموميات كلوازم للخطاب، ستزدحم الصحف بعناوين النقد ونقد النقد، فيما المواطن العادي وحده ــ كما السؤال ــ كان غائباً في كل هذا الزحام اللغوي.
سمتان ستدمغان الطرح الثقافي فترة السبعينيات، وهي الفترة نفسها التي شهدت انقسامات حزبية بنيوية، كان تشظي الخطاب الثقافي أولاهما. سيشكل ظهور منظمة العمل الشيوعي علامة فارقة في بارقة الحركة القومية، فيما سيمثل اليسار الإسلامي ممثلاً بمنير شفيق لحظة من لحظات التحوّل داخل خلايا عمل المجموعات الطلابية الفلسطينية، وعلى الهدي ذاته سيمتثل البعث لشروحات عفلق/ هيردير، ومقاربات الأرسوزي/ بيرغسون، وما بينهما من توجهات شبلي العيسمي، وابراهيم ماخوس، وصلاح البيطار، ومنيف الرزاز. لم تكن الأحزاب القومية هي الأخرى بمنأى عن انقسامات مشابهة. لقد انقسمت العلمانية على داخليتها فتشظى الخطاب انتصاراً للمذهب طوراً وللواقع طوراً آخر. سمة أخرى يمكن إيجازها حول هذه الحقبة: إنّ المقدمات لم تعد مسؤولة عن النتائج، لقد أعلنت هذه المرحلة فصام التوفيقية الإسلامية، هي الأخرى، إلى إسلامية جهادية وأخرى مدينية، سيولد تنظيم قاعدة الجهاد من رحم الإخوان المسلمين في مصر، مثلما سيدّخر حزب الدعوة عناصر أساسية ستمثّل النواة لانطلاقة «الجهاد الإسلامي في لبنان» والذي عُرف في ما بعد باسم حزب الله.
وحدها الثورة الإسلامية في إيران كانت لتعيد جدل الفكر الواقع إلى منسرح الثقافة، ولكنها، وللمفارقة، أعادته بلغة الفقاهة لا الثقافة، والفقيه لا المثقف، لتعيد سؤال العلاقة بين الفقه والمثقافة إلى لحظته الجنينية الأولى: هل ستنمو مفردة الفقاهة على حساب الثقافة؟
دخلت الثقافة طورها الثالث مع ارهاصات عودة الذات لفاعليتها التاريخية، كان انتصار المقاومة في لبنان مطلع هذه الألفية وما تلاه من انتصاري تموز 2006 وكانون 2009 في غزة، لحظة فارقة في مسار الدلالة الثقافية. لقد تمكّنت «الذات المهمّشة» وللمرة الأولى من تحشيد كتلة تاريخية ــ باستعارة من غرامشي ــ آصرتها التحرر، في وقت بدى الغرب بحاجة ماسة لايجاد موازن أمام هذا العَود القادم. لم يكن محور الاعتدال موازناً ثقافياً بطبيعة الحال، كما أنه لم يكن محض سياسي. لكن المفارقة الفاصلة أن المثقف على تنوعه كان قد انتظم في احد خياري هذا المعطى السوسيوثقافي. لم تعد الثقافة مسألة ثقافية، كما لم تعد المسألة الثقافية شأناً ثقافياً بالكل.
لم تكن ثورات الربيع العربي منبتّة الصلة مع ما شهدته الذات «المهمّشة» من امكانية العَود، والعَود هنا ليس ضرباً من التسلّف التاريخي، إنّه أصالة الإحساس بالفاعلية المكانية والزمانية. وقد يصير أن يشعر المهمشون بذاتهم فتولد ثورة، الثورة فعل وجود، والثائر يولد مرتين في التاريخ والمعنى. إنّ التحرر لا شك مسألة حرية، كما أن الحرية هي فعل تحرر أولاً وآخراً، وليس بين حدي هذه القطبية أفعال تفضيل.
لقد نجحت العولمة ــ وأصر عل استخدام كلمة «عولمة» ــ مدعّمة بقنوات النفط الخليجي في استدراج المسألة الثقافية للامتثال لأحد طرفي هذه القطبية (الحرية ــ التحرر)، ثم كان أن اختزلت الحرية إلى ليبيرالية سياسية، ومن ثم إلى لحظة ديموقراطية هجينة، فتولّد الراهن السياسي واقعاً هجيناً ومفارقاً في بنيته النظرية والمجتمعية، من خلال علمانية قاصرة ومليّة سلطوية ضاربة، فيما تكشفت هذه المرحلة يوماً بعد آخر، انسلاباً في الشخصية الثقافية العربية وانئساراً لانحيازات قيمية منجزة.
في نهاية الثمانينيات، كتب دونالد بارثيليم رواية قصيرة تحت عنوان جملة «sentence». الرواية التي تبلغ سبع صفحات طوال مؤلفة من جملة وحيدة، هذه الجملة ــ التي هي بطلة القصة والتي تحمل اسمها ــ لا ترغب في الموت، أو أن تنتهي بنقطة النهاية، لذا فإنّها تستعمل كل الحيَل البيانية التي في جعبة اللغة كي تُطيل أمد حكم الإعدام، هكذا تتراءى المسألة الثقافية بخطابها التقليدي المنجز بعد قرنين ونيّف من السنين.
وحده السؤال يقف منكراً ذاته فارضاً حقه في الإجابة ليسأل، لما تُستنزل هذه اللحظة التاريخية من إطلاقيتها؟ ومن سمح باختصار هذه اللحظة/ الثورة باسقاط نظام سياسي؟ أو اسقاط زعيم هنا أو هناك؟ متى يُشرّع المثقف أبواب الحرية في المكان وفي الزمان؟ ومتى يولد هو في التاريخ وفي المعنى؟ متى يعفينا التنويري من «خطاب الهامشية التاريخية»؟ ومتى يتصالح الإسلامي مع «جوانيته» ورافضيته على السواء، فيقرّ بأنّ للذات كما للرفض مسافة حق ورؤيا؟
على المثقف أن يعي قبل غيره أنّه ليس ثمة سيد للغة، وأن امتلاك رأس المال اللغوي قد يتضمن قدراً من العنف إذا ما تجاهل آمال المهمّشين. ثمة ثورة ثقافية قادمة يقول السؤال، والثائرون الماضين بأجسادهم في كل هذا العراء يعرفون ــ كما يعرفون أنفسهم ــ أن نقل المتجاوز إلى حروف يقتضي أن يقذفوا بأرواحهم عمق الموت وعمق السؤال.
* باحث في الفكر السياسي