لم يلقَ مفهوم من الشيوع، وأيضاً الالتباس، في هذه الفترة ما لقيه مفهوم الحرية. وبات كالعديد من المفاهيم الأخرى محكّاً لتمييز «الأخيار» عن «الأشرار» في العالم العربي، وخاصة في سوريا. ومن عدَّ نفسه من أنصار الحرية، امتلك الحق في الحكم على الآخر «الكاره» للحرية، وشرَّع لنفسه، باسم هذه الحرية، إنزال القصاص «بالعبيد»، الذين لم يستطيعوا إدراك جوهر وجودهم الحر، كما تقول الوجودية.
لن أدخل في نقاش فلسفة الحرية كما تناولتها أقلام الفلاسفة وكتّاب النهضة في أوروبا، لكن معظم من كتب عن الحرية ألزمها بالمسؤولية والإدراك والقدرة على التمييز، كما قيَّدها بقانون يضبط ممارستها في الواقع العملي... حتى حرية الإبداع في الأدب والفن، لم تُتْرك طليقة دون قيد، حين تتجاوز أو تنتهك حرية الآخرين.
في العقد الأخير، اتسعت طرق وقنوات التعبير عن «الحرية»، ووصلت مع المنجزات الثورية لوسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى مستويات انفجارية يتعذر ضبطها، وخاصة في مجتمعات لم تألف ممارسة الحرية كمُعطى يومي يُنزِل المفهوم من مستوياته الذهنية إلى تجعدات الواقع وتلافيفه.
قاد غياب تراث في ممارسة الحرية بمعناها الإنساني المدني، إلى شخصنة مفهوم الحرية، بحيث انتفى التعريف والاتفاق العام الذي يؤطر هذا المفهوم ضمن شرط تاريخي واجتماعي وثقافي، واصطبغ برؤية ذاتية ضيقة، مع ما نتج عن ذلك من تناسل عدد كبير من الرؤى والممارسات المبهمة والمتناقضة التي غاب عنها أي جامع نظري أو عملي.
لقد سيطر الفهم «الشعاراتي» للحرية كغلاف شاعري وعاطفي يفتقد أي مضمون، واعتبر كمفهوم عصيٌّ على الشرح والنقاش، لأنّه «يحمل تفسيره بنفسه»، ومن السخافة محاولة فهمه في شرط معين، باعتباره مفهوماً لا تاريخياً، مطلقاً، كأغلب المفاهيم التي صاغها العقل «الإسلاموي». بلغ الأمر في «تسفيه» مفهوم الحرية وممارستها ،في الحراك الإسلامي الذي يشهده العالم العربي حدّاً جعل من الوهابي والسلفي حاملاً و«ناطقاً» رسمياً باسمها، في ظل ما أطلقَ عليه «الربيع العربي»! فكيف يستقيم التكفير مع الحرية؟ أليس التكفير في نهاية المطاف ومبتدئه تقويضاً لأي تجلٍّ من تجليات الحرية؟
من هنا سأحاول الربط بين الحرية والنفس، هذه النفس التي صاغتها قرون من النزاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجازر بلبوس ديني، طائفي أو مذهبي، والتي تُكبَتُ أو تُبْثَقُ وفقاً للشروط السياسية والاقتصادية والثقافية. ثمة في الفهم والعلاج النفسي منهجان رئيسان يقاربان الأزمة النفسية الفردية، التحليل النفسي الديناميّ والمقاربة المعرفية ــ السلوكية. ولكي أوضح أطروحتي
في العلاقة بين الحرية والنفس، سأوجز هذين المنهجين الأساسيين، اللذين يعبران عن فلسفتين في علم النفس. يسعى العلاج التحليلي من خلال تقنية التداعي الحر وأعداله كالأحلام وزلّات اللسان، إلى الحفر عميقاً في طوبوغرافيا النفس البشرية، للوصول إلى الصراعات والرغبات التي جرى كبتها ودفنها «حية» في متاهات اللاشعور (المنجم الحقيقي للشخصية)، إذ تحوّلت إلى مركبات أو عقد نفسية تطل برأسها بين الحين والآخر وعلى نحو مموه يظهر على شكل قلق أو خوف أو أعراض أخرى، لكن الجذر التاريخي أو الكرونولوجي لهذه الصراعات يعود إلى الطفولة المبكرة. وعلى ذلك، يتعيّن الغوص في اللاشعور وتعريضه لضوء الشعور، وهو «الانكشاف» الذي يجعل الشخص، وفقاً للنظرية التحليلية، يدرك جذور مشكلاته الحقيقية وعلاقتها بالأعراض، أي يدرك رمزية العرض ومعناه.
في المقابل، لا تكترث المقاربة المعرفية ــ السلوكية بجذور الصراعات والمركّبات النفسية، وبالتالي لا تضطر إلى الخوض في اللاشعور. فهي تقول بأولوية الأفكار والعقائد والترسيمات المعرفية، المنتجة للانفعالات، وبالتالي السلوك. وتفترض النظرية المعرفية أنّ لدى كل شخص منظومة معرفية يدرك ويتفاعل مع العالم من خلالها، وهذه المنظومة قد تكون متصلبة لدى البعض وليّنة لدى البعض الآخر، بحسب قبول الشخص التعديلات على هذه المنظومة وقدرتها على التكيف مع المعطيات المتغيرة.
في الفكر التحليلي يمثل «الهو» الحرية غير المسؤولة، المنفلتة التي تسعى إلى إشباع الرغبات الجنسية والعنفية، في ما يسمى «مبدأ اللذة» أو «النفس الأمّارة بالسوء»؛ فيما تبدو منظومات الأفكار أو الترسيمات المعرفية كأنّها خريطة أنتجتها آلاف السنوات من ضرورات البقاء والتكيّف لدى البشر.
لم يكن ممكناً للإنسان أن يحافظ على بقائه لو قيّض له أن يعمل وفق غرائز الهو التي تحتاج إلى موضوع من أجل إشباعها، إذ يغدو التنافس على هذا الموضوع مدمِّراً، يُذهبُ بوجود البشر بحد ذاته. كان لا بد إذاً من الناحية البقائية التطورية من وجود قوة يمكنها احتواء الهو، ومنعها من التدمير، وهذه القوة هي الأنا الأعلى، التي تبلورت على شكل الأخلاق (إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق). وبناءً عليه فقد تطور توازن يتيح علاقة غير صراعية بين غرائز الهو ومنظومة الأخلاق المتمثلة في الأنا الأعلى، تديره الأنا وتعمل على استتباب هذا التوازن من خلال آليات دفاعية معقدة.
إذا سحبنا الآليات التي نستخدمها كأفراد على المجتمع، فقد نضحي ببعض الانضباط العلمي، لكن ليس كله. فللمجتمعات كما علمنا «يونغ» شعور جمعي ولاشعور جمعي أيضاً. وبالتالي يبدو منطقياً أنّ مقاربة مشكلة القمع التي يعيشها مجتمع متخم بالنزاعات والصدامات والشكوك المتراكمة على مدى عصور، وإن دُفعت بعيداً عن السطح بالقوة غالباً وبالإيديولوجيا أحياناً، لن تأتي أكُلُها بإطلاق غرائز المجتمع دُفعةً واحدة ودون قيد أو شرط. فالمجتمع سيتصرف كالفرد هنا: أي وفق مبدأ اللذة، حيث سيتوسع هذا المبدأ ليشمل كل ما حُرم منه وعوقب من أجله، وأيضاً كل ما يظنه وعداً إلهياً ينتظره بعد تصريف غرائزه، مدفوعاً بأيديولوجيا تتغطى بالإسلام!
قد يبدو ما أقوله إرادوياً بطرح السؤال: وهل يملك أي كان منع الضغط المتراكم من الانفجار؟ نعم إلى حدّ كبير. وهنا بالضبط دور النخبة من مفكرين وقادة رأي وأحزاب وجمعيات مدنية وأهلية، الذين تقع عليهم مسؤولية تاريخية ووجودية بكل معنى الكلمة، ضبط الغرائز الجمعية (الهو الجمعي) وتوجيهها وتصعيدها والتسامي بها، بخطاب عقلاني واقعي (منظومة معرفية) نحو نشاطات وممارسات خلاقة، تكيّف فيها بين رفع «الحظر» التدريجي عن المكبوتات، والسقوف الاجتماعية والأخلاقية (الأنا الأعلى) التي تضبط انفلاتها، أي بالمعنى التحليلي أداء دور (الأنا) الحافظة لتوازن دقيق بين الهو والأنا الأعلى.
يبقى السؤال، إذا كانت الهو الجمعية، غير مميزة ومندفعة دوماً نحو الإشباع، فهل غياب الأنا أو عدم وعي دورها، يعني سوى نفي المجتمع لذاته، وانتحاره؟
* كاتب وطبيب نفسي سوري