عندما أشعل محمد البوعزيزي النار في جسده، لم يكن يعرف أنّ بلاده كانت أشبه ببرميل من البارود، وأنّ هذا البرميل يقع وسط منطقة مكدسة بمواد سريعة الاشتعال تغطي مساحة العالم العربي كله، بممالكه وجمهورياته ومشيخاته. وعندما تدفقت الجموع إلى الشوارع والساحات في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين والأردن والسعودية وغيرها، ترفع شعاراً واحداً يختصر كل الشعارات الأخرى وهو: «الشعب يريد إسقاط النظام»، لم تكن الجموع تعرف أنّ النظام الذي تريد إسقاطه قد سقط بالفعل، حتى من قبل أن تنزل إلى الشوارع والساحات، ومن قبل أن يحترق جسد محمد البوعزيزي. فالحقيقة هي أنّ الأنظمة العربية، ودعوني أقول أيضاً الكيانات السياسية العربية القائمة، فقدت بانهيار النظام الدولي القديم الأساسات التي قامت عليها. الأساسات الجيوسياسية التي قامت عليها هذه الكيانات، وأساسات «الشرعية» التي قامت عليها الأنظمة السياسية.منذ أن ارتفع العلم الروسي بألوانه الثلاثة فوق قباب الكرملين، بل منذ سقوط جدار برلين، كانت الأساسات تلك تتفسخ، وكان البنيان كله يتداعى ثم ينهار تباعاً، ولا يزال. فالعاصفة التي ولدها انهيار النظام الدولي القديم ضربت في أربع رياح الأرض، غير أنّ آثارها، حيث ضربت، لم تكن واحدة ولا متماثلة. ففي البلاد التي كانت فيها تلك المؤسسة العظيمة التي اسمها «الدولة» عملت الدولة على قراءة المتغيّرات العالمية برصانة علمية وبمسؤولية. ثم راحت تستقرئ مساراتها وتفاعلاتها ونتائجها، وتعمل من أجل أن يكون لبلادها موقع في خريطة العالم العتيد ودور في رسم هذه الخريطة. في العالم العربي، بطوله وعرضه وبجميع كياناته، لم تكن الدولة ـــ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـــ قائمة، فالمحاولة الجدية اليتيمة لإقامة هذه المؤسسة انتهت برحيل عبد الناصر. أما ما عدا ذلك فأسر حاكمة، تستند إلى عصبيات ما دون وطنية، إثنية وطائفية وعشائرية، متحالفة مع رأسمالية طفيلية تتغذى على الفساد وزيادة التخلف، وتعتمد في سلطتها على أجهزة الأمن وعلى الجيش الذي اقتصرت وظيفته على الدفاع عن «النظام»، وتستمد شرعيتها من الوظيفة التي تؤديها هذه الأسر للخارج. وعندما فاجأتها المتغيّرات العالمية، وما بدا حينذاك أنّه الانتصار النهائي للغرب الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، راحت الأسر الحاكمة تتسابق لحجز وظيفة لها لدى الولايات المتحدة تحديداً، وتقدم الدليل على أهليتها واستعدادها، فكان البند الأول في السيرة الذاتية CV الذي تقدمت به هو «السلام» مع الكيان الصهيوني. أما البند الثاني، فكان أهليتها واستعدادها للمساهمة في تمزيق الكيانات العربية بما يتلاءم والخريطة الأميركية العتيدة للشرق الأوسط الجديد. في ضوء ذلك، يمكن تفسير الدور الذي لعبه حكام السعودية ومصر والخليج في تمزيق العراق والسودان وليبيا، واليوم سوريا، وغداً لا نعرف أي دولة أخرى.
في المنطقة التي يسمونها «الشرق الأوسط»، ثمة بلدان ثلاثة لديها مؤسسات حقيقية اسمها «الدولة»، وهي إسرائيل وتركيا وإيران. ولا يتسع المجال هنا للحديث عن كيف قرأت كل واحدة منها المتغيّرات العالمية، وكيف رسمت استراتيجياتها ووضعت سياساتها، وخصوصاً كيف تعاطت مع واقع الفراغ الذي يملأ الفضاء العربي والركام الذي يملأ الساحة العربية. غير أن ما أرى ضرورة التوقف عنده قليلاً الآن هو الآتي. فعلى مدى عشرين شهراً، ومنذ أن اندلعت الشرارة في تونس وامتد اللهيب ليغطي معظم الساحة العربية، كان ظاهر المشهد يوحي بأنّ الشعوب قد انتفضت ضد حكامها، وأنّ الأنظمة أخذت تتهاوى أمام زحف الشعوب وتحت أقدام أولئك الذين تجرأوا على النزول إلى الشوارع. صورة المشهد تلك جميلة، لكنها ليست دقيقة. إذ إنّ الحقيقة ـــ كما ذكرت آنفاً ـــ هي أنّ الأنظمة كانت آيلة إلى السقوط وكانت تتهاوى، وقد استدعى الفراغ الذي أحدثه سقوطها انجذاب ركام هائل إلى دائرة الفراغ لملئه، وهو ما تفرضه قوانين الطبيعة ذاتها.
من بين الركام ذلك، برزت قوتان كانتا الأكثر استعداداً لملء الفراغ: بقايا النظام القديم وفي طليعتها الجيش، وبقايا العفن السياسي الذي خلفته عقود القهر والقحط، وأبرزها التنظيمات التي اتخذت من «الإسلام» شعاراً ومصدراً «لشرعيتها».
من موقعها الجديد في مؤسسات السلطة، كان من الطبيعي أن لا تطرح تلك «البقايا» السؤال الذي كان يؤرق الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع وهو: كيف ننتقل من الانتفاضة إلى الثورة؟ كيف نحدث التغيير؟ ولكن السؤال الذي طرحته على نفسها تلك القوى هو كيف نحتل السلطة ونمسك بها ونرممها لنمنع بها الاندفاع الشعبي الهائل نحو التغيير؟
لقد تمكنت بقايا النظام القديم وبقايا العفن السياسي التي تسترت بشعار «الإسلام» من ملء فراغات الماضي، واستحوذت على الحاضر، لكن فراغ المستقبل الذي كان يؤرق جموع الشباب كان هائماً على وجهه يبحث عن بطل. وفي فوضى الصراع، أخذت مجموعات حديثة تكشف عن نفسها وتكتشف حقيقة قوتها، وبدأت تشق طريقها إلى المستقبل. هذا ما تكشف في خضم معركة انتخابات رئاسة الجمهورية في مصر. وهذا أيضاً ما نراه اليوم في تونس.
كانت هذه إطلالة سريعة على المشهد العربي، اخترت منه ما أرى أنّه ضروري للحديث عن لبنان، وبالتحديد عن تداعيات أحداث المنطقة على لبنان. إنّ المتغيّرات التي أطاحت الأساسات التي قامت عليها الأنظمة العربية، وأدت إلى تداعيها ومن ثم سقوطها، هي نفسها المتغيّرات التي أطاحت الأساسات التي قام عليها النظام السياسي الطائفي في لبنان. ولن يتسع المجال الآن للحديث عن الظروف الخارجية التي ولدت هذه الصيغة منذ مئتي سنة، ولا عن المتغيّرات التي طرأت عليها، بل أتوقف عند آخر نسخة منها وهي «الطائف». في الطائف، توفرت ظروف خارجية أنتجت معادلة ثلاثية الأطراف، أميركا وسوريا والسعودية، أعادت إنتاج النظام اللبناني وصيغته «التعددية الطائفية»، ولكن بالاستناد إلى ثنائية جديدة سنية ـــ شيعية، بدلاً من الثنائية السنية ـــ المارونية التي كانت قائمة قبل الطائف. وبموجب هذه المعادلة، بشقيها الخارجي والداخلي، كان من الحقيقة بمكان القول إنّه لا يمكن أن تتشكل في لبنان حكومة ـــ بحسب الطائف ـــ إلا إذا كانت حكومة «وحدة وطنية».
كان لا بد للأحداث التي شهدتها المنطقة منذ مطلع هذا القرن، وبالتحديد منذ بدء الإعداد لغزو العراق أن تؤثر على لبنان، فبدأ الحديث عن الاحتلال السوري والسيادة، ثم جاء اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، ثم عدوان تموز، وصولاً إلى مطلع 2011 حين أطيحت حكومة «الوفاق الوطني» آنذاك. هل صدفة أن يتزامن هذا الحدث المحلي مع اندلاع شرارة ما يحلو للبعض أن يسميه «الربيع العربي»؟
مهما كان الأمر، فقد جرت محاولات حثيثة على مدى خمسة أشهر من أجل إعادة تشكيل حكومة «وفاق وطني»، غير أنّ هذه المحاولات لم يكتب لها النجاح. لماذا؟ إنّ دور السعودية والولايات المتحدة الأميركية في إحباط تلك المحاولات كان واضحاً، أما دلالته الرئيسية فهي أنّ «الطائف»، أو بالأحرى المعادلة الخارجية التي أعادت إنتاج النظام اللبناني في الطائف قد انتهت، وأنّ هذا النظام بالتالي قد افتقد الأساس الذي قام عليه. في هذا المجال، ثمة ملاحظة لا بد منها وهي أنّه في تلك الفترة التي فصلت ما بين سقوط حكومة «الوفاق» وقيام حكومة «اللون الواحد»، انطلقت شرارة الأزمة السورية التي، ومن دون إغفال العوامل الداخلية، كانت أصابع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية واضحة فيها.
من ينظر إلى هذا البناء الذي اسمه الدولة اللبنانية من الخارج يلاحظ بوضوح التشققات المخيفة التي بدأت تظهر في جدرانه، والتي تجد سببها الحقيقي في الدمار الذي أصاب أساساته تحت الأرض، أي المعادلة الخارجية التي أشرت إليها.
واليوم، على هذا البناء المتداعي، الذي ذابت أساساته وملأت التشققات والشروخ جدرانه، تنهال تحديّات عاتية لم تعد تنفع في صدّها سياسة «النأي بالنفس». من بين تلك التحديات، ثمة استحقاقات داخلية دائمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بها، ربما يكون أبرزها الانتخابات النيابية وما يليها من إعادة تشكيل السلطة التنفيذية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. تلك الاستحقاقات مرتبطة بمسألتين بالغتي الأهمية والخطورة، وهما موقف لبنان الرسمي من الأزمة السورية المتمادية، وشرعية أو لاشرعية سلاح المقاومة، بل المقاومة.
كما هو معروف، فإنّ نتائج الانتخابات في لبنان تتحدد وتظهر قبل الانتخابات لا بعدها، والاصطفافات الطائفية، التي لها دور كبير في تحديد النتائج، تتعمق قبل الانتخابات لا بعدها. لذا، فإنّ سقوط هذا البناء المتداعي الذي اسمه النظام اللبناني سوف يكون قبل الانتخابات لا بعدها. فمن يملأ الفراغ؟
في هذا يختلف لبنان عن معظم أو عن سائر البلدان العربية الأخرى. فمؤسسة الجيش، كأبرز «بقايا» النظام القديم، سوف تكون معطلة بالتوازنات الطائفية التي تحكم «الصيغة» المنهارة. أما الحركة «الإسلامية»، فهي موزعة بدورها على الطوائف الإسلامية. إذاً، فإنّ كل بقايا النظام القديم الموزعة على الطوائف السياسية سوف تهب لملء الفراغ. كيف؟ هل بإعادة إنتاج النظام نفسه؟ هذا مستحيل في غياب معادلة خارجية لن تتوفر قبل أن ينجلي دخان الأزمة السورية المتمادية. إذاً عبر الحرب؟
نعم... إلا إذا استطاع شباب لبنان أن يستفيد من تجربة أولئك الذين تحدّوا وتوحّدوا في مصر خلف حمدين صباحي، ومن النجاحات التي يحققها أقرانهم في تونس في مواجهة «حركة النهضة» وبقايا النظام القديم.
لنفتش عن هذا «البطل»، في الجامعات لا في المؤسسات السياسية وهياكلها اليابسة. في العمال... إنّ دروس تجربة عمال «سبينس» وعبرها غنية جداً وواعدة. في مؤسسات المجتمع المدني النظيفة وناشطيها المياومين، هؤلاء سوف يصنعون القوة التي تجنب لبنان مآسي الحرب الأهلية، وتبني ـــ لأول مرة ـــ الدولة والمجتمع.
* نائب لبناني سابق، رئيس حركة الشعب