يركز الإعلام حالياً على الانشقاقات التي تبرز في صفوف النظام بوصفها أحد العوامل التي ستؤدي إلى تفكيكه، لصالح المعارضة التي ستصبح أقرب إلى تحقيق أهدافها كلما تواترت الانشقاقات السلطوية وتوسعت، وخاصة حين تقترب من نواة النظام الصلبة (الأمنية/ العسكرية)، والتي لن يتأثر النظام من دونها.ما سبق يخفي في حقيقة الأمر انشقاقاً آخر لا يسلط الضوء عليه أبداً، ألا وهو الانشقاقات التي تحصل داخل الطيف السوري المعارض. وهو أمر إذا راقبناه منذ بداية الانتفاضة حتى الآن، فسنجده أكبر وبما لا يقاس من الانشقاقات في دائرة النظام. ويبدو هنا أنّه بقدر ما يتعرض النظام للتآكل التدريجي بفعل الانشقاقات، فإنّ المعارضة تتآكل وبسرعة أكبر بفعل انشقاقاتها وانشطاراتها المعلنة، إلى درجة أنّها باتت تفقد شعبيتها تدريجاً في الشارع السوري وفي صفوف جمهور الانتفاضة في آن، كما النظام تماماً. وهو أمر خطير جداً، قلما ينتبه له في سوريا، لأنّه يعني في نهاية المطاف غياب أي مشروعية لأي تمثيل سياسي لاحقاً، مقابل صعود العدميات الجهادية والسياسية في آن. إذ على الرغم من ضعف السياسة لدى هذه المعارضة التي لا تزال تمارس السياسة بعقلية الإيديولوجيا، فإنّ بقاءها ولو بالحد الأدنى يمثل ضمانة لمجتمع سياسي لاحق، بحيث يمكن البناء عليها لتجديد المجتمع السياسي السوري.
ورغم أنّ المقارنة بين الانشقاقيّن ليست متماسكة فكرياً، لجهة أنّ من ينشق عن النظام ينضم إلى المعارضة، في حين أنّ انشقاقات المعارضة تبقى ضمنها، إلا أنّه فعلياً يؤدي إلى تعطيل فاعلية كلّ المعارضة، رغم تكاثر مكوناتها، في الوقت الذي بقيت فيه نواة النظام (الأمنية/ العسكرية) صلبة، وهو ما يجعلنا نرى أنّ المقارنة واجبة، لأنّها تصب في مصلحة النظام المستبد ضد المعارضة التي عجزت عن الارتقاء إلى ما تقدمه قوى الانتفاضة بسبب انشقاقاتها تلك.
إذا كانت انشقاقات النظام السوري تقاس بالأفراد، إذ لم يحصل أي انشقاق جماعي يعتد به حتى اللحظة، فإنّ انشقاقات المعارضة السورية يمكن قياسها بالأحزاب. في هيئة التنسيق الوطنية التي يمكن اعتبارها أول تشكيل سياسي في ظل الانتفاضة السورية (تشكلت في حزيران 2011) تكمن المفارقة في أنّ برهان غليون أحد مؤسسي الهيئة والداعين إلى توحيد المعارضة السورية في الداخل والخارج كان أول المنشقين عن الهيئة باتجاه المجلس الوطني (تشكل في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2011)، ومن دون أن يعلن عن سبب انشقاقه. أي أنّ غليون بقي في الهيئة أربعة أشهر لا غير! وبعدها انشق «حزب يكيتي» في شهر آب، و«حزب العمال الثوري» و«حزب الاتحاد السرياني» (جورج شمعون) في نيسان 2012 (انضم في تشرين الأول 2011) وعلقت الأحزاب الكردية (ما عدا الاتحاد الديموقراطي) عضويتها في شهر كانون الثاني من هيئة التنسيق، إضافة إلى انشقاق عشرات المعارضين بشكل فردي، منهم مي الرحبي وميشيل كيلو الذي شكل مع حازم النهار (حزب العمال الثوري) المنبر الوطني الديموقراطي. وإذا أخذنا تاريخ تشكل الهيئة والفترة التي قضاها هؤلاء في كنف الجسم المعارض، فسنجد أنّها فترة قصيرة جداً، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة حول المنشقين وأهدافهم، وعما إذا كانت الفترة التي قضوها في الهيئة كافية عملياً لتقويم عمل سياسي ما!
ولعل المفارقة الأبرز في الهيئة هي انشقاق حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في كانون الثاني/ يناير 2012، لأنّ الهيئة لا تنسجم مع الخط السياسي الناظم للحزب الذي انتقد الممارسات غير الديموقراطية في قيادة الهيئة، علماً بأنّ الهيئة يرأسها الأمين العام لحزب الاتحاد نفسه أي حسن عبد العظيم! (هل يمكن حل هذه المفارقة الفاجعة؟).
الأمر لا يختلف نهائياً في المجلس الوطني، إذ أعلنت مجموعة من المنشقّين، في شباط/ فبراير 2012، بقيادة هيثم المالح (علماً بأنّ المالح شكل قبل انضمامه إلى المجلس مؤتمر الإنقاذ أيضاً) وكمال اللبواني، ووليد البنّي، وكاترين التلّي، وفواز تلّلو، عن تشكيل «مجموعة العمل الوطني السوري» بوصفها منبراً متميّزاً داخل المجلس، ليستقيل المالح وكمال اللبواني في شهر آذار بشكل نهائي (لاحقاً شكل المالح ما عرف بمجلس الأمناء الثوري الذي كلفه تشكيل حكومة!)، وتبعهم حوالى 70 عضواً آخرين، عادوا إلى المجلس بعد ذلك بأسبوعين، عندما حاول توحيد صفوفه، إضافة إلى انشقاق السيناريست ريما فليحان وغيرها.
ويعاني المجلس انشقاقات داخلية، تجعل مكوناته متنافرة، إذ انشقت في منتصف حزيران الكتلة الوطنية إلى جناحين، على إثر خلافات بينها وبين «مجموعة الـ 74»، وبين فصائل أخرى أصغر حجماً في الكتلة الوطنية. الانشقاق أدى إلى ولادة جناحين للكتلة: الأول بقيادة أحمد رمضان، والثاني بقيادة رضوان زيادة، وتم ضمان بقائهما في المجلس من خلال زيادة حصة الكتلة الوطنية في الأمانة العامة والتي تحددت بثلاثة مقاعد لكل منهما.
ولن تنجو تيارات المعارضة الأخرى من الانشقاقات، إذ لم تكد تتشكل حتى يغادرها أعضاؤها المؤسسون واحداً تلو الأخر، إلى درجة أنّ بعضها تأسس ومات بعد أشهر من تأسيسه، ليغادر الأعضاء باتجاه تيارات أخرى أقوى! إنّ التأمل في تاريخ المعارضة السورية، سيكشف أنّ الانشقاق فيها مرض مزمن وليس وليد اللحظة الحالية، وكأن الاستبداد والأجهزة الأمنية فعلت فعلها في تلك المعارضات، بحيث انتقلت إليها آفة التدمير وباتت تدمر نفسها من تلقاء نفسها.
منذ تسلّم البعث السلطة في سوريا، انشق الحزب الشيوعي السوري إلى أجنحة متعددة: الجناح البكداشي والجناح الفيصلي والمكتب السياسي، وهو الآن حزب الشعب، وتيار قاسيون ـــ وحدة الشيوعيين السوريين (قدري جميل)، إضافة إلى حزب العمل الشيوعي الذي تأسس في 1979.
أما الحزب القومي السوري الاجتماعي فقد انشقّ فرعه في سوريا إلى فصائل عدّة، أصبح أحدها، بقيادة أسعد حردان وعصام المحايري، شريكاً في السلطة في 2005، وأحد أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية التي أسسها حافظ الأسد في 1971. وهناك فرع «الانتفاضة»، برئاسة وزير المصالحة الحالي «علي حيدر»، والذي شكل مع قدري جميل الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في تموز/ يوليو 2011، لينضمّا معاً في 2 أيار/ مايو 2012، إلى ائتلاف قوى التغيير السلمي الأوسع.
وكذلك تعرضت كل أحزاب الجبهة الوطنية لانشقاقات بالجملة، بعضها بقي بمكونيه المنشقين ضمن الجبهة، وبعضها بقي شطره في الجبهة والشطر الآخر في المعارضة. هكذا سنجد حزب البعث حاكماً لسوريا وحزب البعث الديموقراطي بقيادة إبراهيم ماخوس في المعارضة منذ 1970.
وفي 2005، تم تشكيل إعلان دمشق كإطار يجمع المعارضة في الداخل والخارج، ولم يكد يأتي 2006 حتى انشقت جماعة الإخوان المسلمين عن الإعلان واتجهت إلى التحالف مع جزاريها السابقين عبد الحليم خدام ورفعت الأسد في جبهة الخلاص الوطني التي عادت وانشقت عنها في 2008، لتدخل في حوار غير مباشر مع النظام.
وفي 2008 تعرض إعلان دمشق لكارثته الأبرز حين انشق عنه في كانون الثاني 2008 حزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب العمل الشيوعي وحزب البعث الديموقراطي الاشتراكي في أيلول/ سبتمبر 2008، ليصبح الإعلان واجهة لا غير.
وإذا كانت القراءة الموضوعية لانشقاقات المعارضة تجد تبريراً لها في ضعف الحياة السياسية في فترة الاستبداد وبحجم العسف والتضييق الذي تعرضت له حقاً تلك المعارضة، فإنّ الأمر لا يخفي شيئاً من الشللية والتنافس المريض والشخصنة وحب الظهور والبروز لدى بعض شخصيات المعارضة ومثقفيها، وهذا مرض لا شفاء منه.
عموماً، إنّ اتجاه الانتفاضة نحو السلاح قلص على ما يبدو الحاجة إلى هذه المعارضة، لأن أي متابع دقيق سيجد أنّها باتت هامشية وغير قادرة على فعل شيء. ولكن تبقى الأسئلة التالية مشروعة: ألم توفر الانتفاضة لهذه المعارضة فرصة أن ترقى بأعمالها لتصل إلى مستوى ما يقدمه الشعب من تضحيات؟ ولمَ لم تفعل ذلك؟ هل العطب بنيوي ويستحيل إصلاحه، وبالتالي لا بد للانتفاضة من توليد معارضتها الممثلة لها؟ وهل تحتمل الحالة السورية انتظار ولادة تلك المعارضة السياسية الخارجة من رحم الشارع؟
تلك أسئلة أصبح من الملحّ البحث عن أجوبة لها في سوريا، والعمل على تحقيقها، وخاصة أنّ المعارضة لم تقدر أن تحقق شيئاً بعد لشارع يستشهد وهو يصرخ منذ ثمانية عشر شهراً: حرية حرية.
* شاعر وكاتب سوري