حين استخدم مندوبا روسيا والصين في مجلس الامن حق النقض ضد اتخاذ القرار نحو الازمة السورية، وصلت الرسالة إلى كل دول العالم: «إننا هنا... والنظام العالمي بدأ يتغيّر». المنطق ليس بمؤامرة، هو حركة التاريخ ودورة حياة الدول والشعوب، والمسألة ليست سوريا فقط، بل إنها منطقة المشرق العربي بأكمله. تصريحان يجب التوقف عندهما لنفهم الرسائل في ما يخطط للمستقبل في الشرق الاوسط والمنظومة العالمية، الاول المقابلة التي أجراها هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي الأسبق، وتحدث فيها عن تبدل النظام العالمي، والتصريح الثاني هو للمتحدث باسم الخارجية الروسية بقوله إنّ التسوية حول سوريا سترسم النظام العالمي الجديد. التصريحان يكملان بعضهما بعضاً في الاشارة إلى دخول العالم في صراع نحو منظومة جديدة لإدارة الدولية.في 1680، أُقرّت معاهدة وستفاليا التي أنهت حرب الثلاثين عاماً في اوروبا، وقد جرى الاتفاق على ثلاثة مبادئ أساسية تحكم العلاقات الدولية، هي مبدأ الولاء القومي والسيادة وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية. لماذا أعلن هنري كيسنجر تبدل هذا النظام، وخاصة في إشارته إلى الربيع العربي؟ هل هناك وعي لدى الشعوب المنتفضة وحكومتها، أم هي تتحول إلى حجر على رقعة الشطرنج في لعبة الامم؟ هل هذا التغيير بدأ من ثورة تونس ام انّ ملامحه بدأت بالتشكل مع الازمة المالية العالمية؟ وهل يشمل ذلك التغيير التعامل مع الملف النووي الايراني الذي يشكل ذريعة لتدخل هذه الدول؟
لمنظمة «بريكس» دور اساسي كلاعب جديد على المسرح الدولي. دول المنظمة (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وافريقيا الجنوبية) يسكنها نصف سكان العالم، ويبلغ الناتج المحلي لها 13 تريليون دولار، ولديها موطئ قدم في أربع قارات. كيفية إدارة النظام العالمي مرتبطة بـ«الغاز الطبيعي» على سواحل المتوسط، إذ تشير المعلومات إلى وجود هذه الثروة الطبيعية في المنطقة بين فلسطين ولبنان وسوريا وقبرص، وصولاً إلى تركيا. ولا يخفى على أحد وجود مشاكل ترسيم الحدود البحرية بين هذه الدول، ربما بسبب وجود هذه الثروة الطبيعية التي تقدر بـ120 تريليون مكعب من الغاز، و1,7 مليار برميل من النفط. البوارج المنتشرة من مضيق هرمز إلى ميناء طرطوس، وتشكيل الكيان الاسرائيلي فرقة خاصة لحماية حقول الغاز، كلها تتجمع بهدف واحد هو الحصول على هذا المورد.
وللحصول على هذه الثروة الطبيعية تلتزم القوى العالمية تشكيل أنظمة في دول المنطقة تتناسب مع أهدافها، إذ نحن امام شرق اوسط جديد، أو سايكس بيكو جديدة، فالتسوية الدولية أو الحرب العالمية الثالثة هدفها إنشاء كيانات سياسية، تشمل إعادة ترتيب منطقة البحار الأربعة (المتوسط ــ الاسود ــ قزوين ــ الخليج العربي)، أي منطقة شرق المتوسط، ومنطقة آسيا الوسطى. الصراع هو على شكل هذه الكيانات والانظمة لتحافظ على وجود القطع العسكرية على أراضيها ومياهها الإقليمية. وتشكل هذه المناطق بوابات لروسيا والصين من جهة التصدير والحصول على الثروات الطبيعية. ما كانت بحاجة إليه القوى العالمية هو الدخول في هذه المنطقة بأقل تكلفة عسكرية، وخاصة بعد الازمة المالية، فكان من مصلحتها أن تخلق أزمات في هذا المشرق العربي. ازمات تعتمد في نهايتها على الصراعات المذهبية والطائفية، فالمسألة هي في كيفية إدارة الدول الاقليمية والعالمية لهذه الصراعات بما يخدم مصالحها الحيوية. ولن تكون الامم المتحدة بعيدة عن التغيير، مع احتمال انضمام دول جديدة إلى مجلس الامن، الامر الذي تطالب به الكثير من الدول منذ بضع سنوات، مثل اليابان والبرازيل وغيرهما، وهو ما سيتحدد في شكل الادارة الدولية القادمة.
في هذا الصراع بين منظمة البريكس وحلف شمال الاطلسي، سترتسم امامنا صورة واضحة لشكل النظام العالمي الجديد، الذي ستتحدد نهايته وشكله في كيفية انتهاء المسألة في سوريا. فموقع الدولة في منطقة متوسطة في حوض الغاز الطبيعي، ووقوعها على حدود الصراع الوجودي مع الكيان الاسرائيلي، وبين دول غير مستقرة أمنياً، يجعلها المفصل الاساسي في الاتفاق العالمي، وخاصة بعد تدخل مختلف الدول العربية والاقليمية والعالمية فيها.
كنا نطرح دائماً تساؤل «من نحن؟»، بحثاً عن الهوية غير الواضحة، لكن ما يحصل الآن يحتم علينا طرح سؤال «أين نحن؟»، وما هو موقعنا وموقفنا مما يجري في العالم من تحوّلات. هل دولنا ومجتمعاتنا مفككة لدرجة سهولة الدخول والتلاعب فيها؟ هل نمتلك قدرة على أن نكون جزءاً من إدارة النظام العالمي الجديد؟ ام سنبقى كما نحن مجرد متأثرين بما يريد العالم لنا أن نكون عليه، مهما اختلفت المسميات من انظمة علمانية وحزبية وعسكرية وإسلامية؟ تساؤلات الإجابة عنها تبدأ بالظهور في الاشهر المقبلة، حين تبدأ مسيرة النظام العالمي الجديد، الذي يبدو أنّنا سنكون وقوداً يحركه لينطلق.
* صحافي لبناني