من غير المفيد كثيراً أن نسقط «أوهامنا الأيديولوجية» على نضالات الآخرين، لكن ثمة من يقول أيضاً إنّه قد يكون مفيداً جداً ألا ندع خوفنا من ذلك يستولي على ما تبقى من شعورنا بالتضامن مع أكثر الاحتجاجات الشعبية يتماً وأخلاقية اليوم: «وول ستريت». ولـ«وول ستريت» واحتجاجاتها حكاية ما عاد مناسباً كثيراً أن تروى في الميديا المهيمنة والعميلة لرأس المال القذر في... «وول ستريت». وهو رأس مال أخطبوطي كما يعرف الجميع، وطبيعته الأخطبوطية هي التي فرضت على صحافتنا المأجورة في المنطقة أن تتعاطى مع الاحتجاج على هيمنته في أميركا كما لو كان تهديداً مباشراً لرأس المال الذي يملكها هنا.
هكذا تشتغل الصحافة التابعة عادة. تسلّط الضوء كثيراً على احتجاجات موضعية في روسيا (لأنّ حدودها هي تغيير شكل السلطة فحسب)، وتغضّ الطرف تماماً عن احتجاجات راديكالية في أميركا (لأنّ «حدودها» هي تغيير النظام الرأسمالي الذي تقتات عليه وعلى فتاته صحافة مماثلة). ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين التغطية التي توفّرت في الإعلام الغربي والعربي لاحتجاجات روسيا وتلك التي توفّرت (أو لم تتوفّر بالأحرى) لاحتجاجات «وول ستريت» لأمكننا أن نفهم قليلاً كيف تشتغل الميديا المهيمنة في العالم، وكيف توزّع اهتماماتها تبعاً لما يريده رأس المال التابع لـ«وول ستريت». ولا يهم هنا كثيراً إن كان الحدث قد استمر أو انقطع عن الحدوث، لأنّ القرار المتخذ من الميديا العميلة لرأس المال هو أن تستمر التغطية للحدث الذي نريد (وهو هنا الاحتجاج النيوليبرالي على حكم بوتين النيوليبرالي بدوره!)، بمعزل عن الأثر الذي خلّفه على المشهد السياسي المراد خلخلته. في المقابل، يلاحظ المرء دينامية معاكسة بالنسبة إلى الحدث المراد تهميشه. وهو أمر طبيعي، إذا ما أخذ بمعيار اهتمامات رأس المال الغربي ونظيره العربي التابع. غير أنّه لا يعود طبيعياً كثيراً عندما يؤخذ بالمعيار «المهني» الصرف. فالمهنية تقتضي ممن يدعيها ألا يبدي تبرّماً بحدث لا ينقطع تقريباً إلا في ما ندر، فيما ينكبّ في المقابل انكباباً مبالغاً فيه على آخر لا يكاد يحدث إلا مرّة كل بضعة أشهر. ذلك أنّ محتجي «وول ستريت» يقدمون مثالاً رائعاً على الإقدام والتفاني عندما يتظاهرون يومياً ومن دون انقطاع تقريباً (وإن لم يتجذر احتجاجهم شعبياً كما يجب)، في حين يوقّت معارضو بوتين احتجاجهم تبعاً لمواعيد انتخابية لا تعنى بفعل الاحتجاج ذاته قدر اعتنائها بإخراجه إعلامياً وتوظيفه لاحقاً في السياسة. ومصدر الاستغراب هنا أنّ الإعلام المملوك لرأس المال غالباً ما يقدم ذاته بوصفه إعلاماً «مهنياً» يعنى بالخبر وما وراءه، ويحاول قدر الإمكان التخفيف من وطأة الدور الوظيفي المسند إليه من جانب رعاته ومالكيه، أو تمويهه في أحسن الأحوال. لذا تبدو انتقائيته في تغطية الاحتجاجات الغربية كأنّها تخلٍّ من جانبه عن معيارية مهنية لطالما «انحاز لها» من موقعه «الليبرالي». ما الضير مثلاً في أن ترفق صحيفة مملوكة لآل سعود (الحياة) تغطيتها التفصيلية (خبر، تحليل، ترجمة عن الصحافة الغربية المناوئة لبوتين...الخ) للاحتجاجات المعترضة على الانتخابات الرئاسية الأخيرة في روسيا بخبر أو خبرين (لا أكثر) في صفحة الدوليات عن الاحتجاجات ضد «وول ستريت» في أميركا. سيبدو ذلك لو حصل توكيداً على ليبراليتها المزعومة، وإسناداً للتعددية والتنوع التي يحرص كتّابها (اقرأ: أبواقها) على نسبهما إليها، بمناسبة ومن دونها. طبعاً حصل شيء من هذا القبيل في البداية، عندما كانت احتجاجات «وول ستريت» أكثر قدرة على التحشيد واستقطاب الجماهير. لكن مع تراجع وتيرة الاحتجاجات وازدياد التضييق عليها إعلامياً وأمنياً، بدا وكأنّ الحرج الذي وقع فيه بعض الإعلام المأجور قد انتفى تماماً. بات بإمكان هؤلاء أن يحاججونا اليوم في حجم الاحتجاجات هناك، وما إذا كانت تستند فعلاً إلى قاعدة شعبية، كما هي الحال مع الاحتجاجات المناوئة لبوتين في روسيا! فمعارضو بوتين (النيوليبراليون لا اليساريون) قادرون على التحشيد، واستقطاب الأضواء على طريقة هوليوود ومهرجاناتها الباذخة، أكثر بكثير من أولئك النشطاء المتوسطي الدخل في «وول ستريت». والصحافة العميلة لرأس المال تستهويها هذه الأنماط من الدعاية الشكلية، وخصوصاً إذا كان القائمون عليها مشمولين برعاية أميركا ومنظمات «مجتمعها المدني» (أقرّت هيلاري كلينتون أخيراً بأنّ الولايات المتحدة أنفقت ما يزيد على ثلاثمئة مليون دولار من أجل دعم الديموقراطية في روسيا!). لدينا إذاً إخراج شعبي لفكرة مناهضة بوتين، ولدينا أيضاً رعاية أجنبية مباشرة لهذا الإخراج. ماذا تريد الصحافة النيوليبرالية أكثر من ذلك لتعظنا في الديموقراطية، وفي أساليب الاحتجاج المناسبة والأكثر حضارية ضد النظم الشمولية! لا يبدو مناسباً كثيراً أن يرد المرء على حججهم. أصلاً ما من حجج لديهم. كلّ ما في الأمر أنّهم يتظاهرون بامتلاكها، تماماً كما تتظاهر الأوليغارشيا المناوئة لبوتين والوضيعة مثله بأنّها معارضة! هو الجذر ذاته تقريباً: العمالة لرأس المال والترويج البائس لأجنداته السياسية والإعلامية. هل ينفع مثلاً أن نقول لهؤلاء كيف استمر طلاب جامعة بيركلي في كاليفورنيا بالاحتجاج لأسابيع، من دون أن يحظى احتجاجهم بأي تغطية من الميديا النيوليبرالية المهيمنة في أميركا مثل «سي إن إن» و«ان بي سي» و«سي بي اس» و...الخ، أو كيف فضّت مخيمات أعضاء حركة «احتلوا وول ستريت» تباعاً من جانب شرطة الولايات المختلفة، من دون أن يرتفع صوت واحد في طول العالم وعرضه يشجب اعتداء الشرطة على المحتجين ومعاملتهم على ذاك النحو المهين؟ لو كانت الفعاليات الاحتجاجية المناهضة لحكم بوتين قد تعرّضت لعنف مماثل (الاعتقالات التي طاولت بعض معارضي بوتين لا تكاد تذكر أمام ما تعرّض له محتجو «وول ستريت») لكانت هرولت كلّ الصحافة الغربية وملحقاتها في المنطقة إلى هناك لمساندة ضحايا البطش السلطوي الروسي، تماماً كما فعلت غداة الانتخابات الرئاسية في إيران في 2009! هذا عن رأس المال الذي يملك ميديا تمالئ «وول ستريت» وتدعو لها بطول العمر ودوام الهيمنة، لكن، ماذا عن رأس المال الآخر الذي «تتناقض» أجندته المعلنة مع أجندة البيت الأبيض وأرباب عمله القذرين في «وول ستريت»؟ تعالوا لنلقي نظرة عليه.
هنالك مقطع فيديو تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي في العام الماضي، يظهر شرطياً أميركياً وهو يجلس طلاباً أميركيين (من جامعة بيركلي في كاليفورنيا غالباً) على ركبهم، ويرشّ على أعينهم رذاذ الفلفل الحار. لقد شاهدت هذا الفيديو مراراً على «يوتيوب»، لكن لم يقدّر لي مشاهدته في الإعلام التقليدي إلا على شاشة واحدة: شاشة «برس تي في» الإيرانية. ثمة مفارقة هنا لا بد من التوقف عندها قليلاً. المحطة الوحيدة تقريباً التي «ساندت» نضال الأميركيين ضد «وول ستريت»، و«وقفت إلى جانبهم» عندما تخلّى العالم كلّه عنهم هي محطة دعائية موالية لنظام الملالي في إيران. وولاؤها الصلب له هو الذي مكّنها على ما يبدو من وضع الاحتجاجات المناهضة لـ«وول ستريت» ولهيمنة الرأسمالية العالمية في أوروبا وأميركا على قائمة أولوياتها الدعائية. فليجرّب أحدكم تصفّح الموقع الإلكتروني لقناة «برس تي في». حالما يفعل ذلك سيرى كيف أنّ هنالك ملفاً كاملاً خصّص للاحتجاجات في أميركا تحت عنوان American» awakening» (الصحوة الأميركية). طبعاً هذا نهج دعائي لا يكترث كثيراً بنضالات الشعوب، قدر اكتراثه بتوظيف تلك النضالات في سياق الصراع بين النظام الذي تواليه «برس تي في» والولايات المتحدة، ومن ورائها الغرب الكولونيالي. لكن، هل يكترث الأميركيون الذين اختاروا «وول ستريت» وبطانتها المالية عنواناً لتصويبهم بذاك الصراع حقاً؟ وهل يعيرون لتوظيفهم داخله اهتماماً مماثلاً لاهتمامهم بالظهور على شاشة تعرض وحدها قضيتهم، حتى لو كانت غير مقتنعة بها تماماً؟ من يشاهد الطيف الواسع من المعلّقين الأميركيين الذين دأبت «برس تي في» على استضافتهم كلما أرادت التعليق على شأن خاص بالاحتجاجات هناك، يظن أنّ هؤلاء لا يحملون أي وجهة نظر نقدية تجاه النظام في إيران. لا نعلم على وجه التحديد إن كانوا يفعلون أو لا، لكن مشاربهم المتعددة (يساريون وليبراليون، بيض وسود، مساندون لحركة الحقوق المدنية ونشطاء مناهضون للعولمة... الخ) تتيح لنا الظن بأنّ هؤلاء ذاتهم كانوا قبل ثلاث سنوات من الآن يقفون «جنباً إلى جنب» مع المعارضة في إيران في نضالها ضد النظام هناك. وقبولهم اليوم بالظهور على شاشة لا تجمعهم وإياها قواسم مشتركة كثيرة أملتها ظروف معينة هي بالضبط ظروف الاستفادة من تناقض المصالح بين نظام يناضلون ضده في أميركا، وآخر لا يدينون له بالولاء لمجرّد أنّهم ظهروا على شاشة من شاشاته. أصلاً، لو أتيحت لهؤلاء خيارات أخرى لما كانوا ظهروا دقيقة واحدة على شاشة ليست «بديلة» إلا بمقدار معين هو مقدار خدمة هذا «البديل» المزعوم لسياسات المواجهة التي ينتهجها النظام الإيراني إزاء الغرب. إذاً، لدينا حتى الآن نموذجان إعلاميان قاربا الاحتجاجات في أميركا على نحو معيّن. الأول أعرض بالكامل عن الأمر بعدما اكتشف أنّه «جدي فعلاً» ومرشّح لتقويض هيمنة رأس المال الذي يعمل عنده، والثاني وظّّف كلّ إمكاناته في سبيل إسناد حركة نضالية (لا يبدو أنّها قد نضجت كفاية) تتقاطع مع أجندته في مكان، وتتناقض معها في أمكنة أخرى كثيرة.
وبين هذا وذاك، كان لا بد من نشوء حيز آخر يحتضن الحراك ضد «وول ستريت» وهيمنتها من دون اشتراطات، ومن دون توظيف ذاك الاحتضان سياسياً على نحو ما فعلته محطة «برس تي في». وهذا الحيز اليوم له اسم واحد: «ذا نايشن»، وهي المجلة اليسارية الراديكالية التي مثّلت الرافعة الوحيدة في «الإعلام التقليدي» (إلى جانب «نيويوركر» أحياناً) للحراك الأميركي. ورغم تراجع وتيرة الاحتجاجات وزخمها الشعبي، لا تزال «ذا نايشن» مواظبة على التفاعل اليومي مع المحتجين وتوفير منبر يتيح لهم التعبير عن سخطهم الكامل. هم أسّسوا طبعاً مواقع لهم على الإنترنت تعرض لنشاطاتهم المختلفة وتتيح للقارئ إمكانية التفاعل مع طروحاتهم الايديولوجية والسياسية، لكن من متابعتي لتلك المواقع ومقارنة محتواها بالصياغة التي تقدمها «ذا نايشن» للمحتوى ذاته تقريباً في مقالات الرأي والتحليل، وجدت أن الفارق لا يزال كبيراً بين الاثنين. طبعاً الطابع «المهني» للمجلة العريقة يفرض ذلك، وكذا هويتها الايديولوجية الواضحة، ودورها الطليعي في مواجهة النظام الرأسمالي المهيمن في أميركا والعالم. حبّذا لو كان لدينا في المنطقة هنا «ذا نايشن» عربية (ليس لدينا صحافة يسارية عربية مستقلة بالكامل عن رأس المال الوظيفي مع الأسف)، لأصبحنا أقلّ امتثالاً لرأس المال وأكثر تفاعلاً مع قضايا الشعوب، كلّ الشعوب من دون استثناء.
* كاتب سوري