استطاعت القوى الاجتماعية في الثورات العربية ذات المجتمعات المتجانسة، كتونس ومصر، حسم الصراع مع الاستبداد في فترة زمنية تقل عن الشهر الواحد. بينما استطاعت التدخلات الدولية إيجاد منفذ لها في المجتمعات غير المتجانسة، سواء عن طريق التدخل العسكري (ليبيا) أو المبادرات (اليمن) أو القمع (البحرين). وفي حالة سوريا، لم تستطع القوى الدولية، على الرغم من ممارستها الضغوط على النظام السياسي، قلب الموازين على الأرض بعد مرور أكثر من عام على الانتفاضة. تطرح هذه المتغيّرات الأسئلة عن طبيعة النظام الإقليمي الحالي وتفاعلاته على الوقائع في سوريا. تأتي هذه المتغيّرات التي تشهدها الدول العربية بعد حالة من الانكفاء المباشر للولايات المتحدة الأميركية في قضايا المنطقة، تبعاً لنتائج حرب العراق 2003، والأزمة الاقتصادية العالمية، ومترافقاً مع زيادة فعالية الدول الكبرى على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ليس لدى المجتمع الأميركي حساسية تجاه الدين مقارنة بالمجتمعات الغربية الأخرى. إذ لم تشهد الولايات المتحدة صراعاً من النوع الذي عرفه الأوروبيون ضد الكنيسة والدين، بل كان الصراع الرئيسي الذي شكل التاريخ الأميركي عرقياً ضد الهنود الحمر، ثم الأفارقة لاحقاً. ولذلك من يراقب المواقف الدولية من الثورتين المصرية والتونسية، يجد أنّ الولايات المتحدة هي الأقل خوفاً من القوى الدولية الكبرى من احتمال صعود قوى إسلامية في الوطن العربي. وبناءً عليه، عملت الولايات المتحدة على فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين بما يضمن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
لم تخف روسيا تخوفها من الثورات العربية، وحذرت في أكثر من مناسبة من تخوفها من فكرة واحتمالية وصول الإسلاميين إلى الحكم، وخاصة في سوريا ومصر. تنظر روسيا إلى المسألة السورية على أنّها قضية أمن قومي لاعتبارات متعددة، تتعلق بضمان نفوذ لها على البحر المتوسط، والتخوّف من امتداد تأثير الثورات العربية إلى آسيا الوسطى، أو إلى العمق الروسي في الشيشان وداغستان.
لا تبتعد الصين عن الإطار الروسي. ولكن يضاف بعد تنموي يتعلق بالأمن القومي الصيني بمفهومه الواسع، من خلال استمرار تدفق النفط الإيراني إلى الصين من أجل استمرار النمو الاقتصادي الصيني مع تحوّلها إلى أكبر مستهلك للطاقة في العالم. ومن هنا يأتي دعم الصين للنظام السياسي في سوريا، من خلال ارتباطه بالنظام الإيراني، إذ تدرك الصين أنّ سقوط النظام السياسي السوري سوف يسهل على الولايات المتحدة إسقاط النظام الإيراني.
تتباعد العلاقات الإيرانية ـــ التركية مع الأيام تبعاً للخلافات الحادة حول الأوضاع في سوريا والعراق، وخاصة مع خروجها إلى العلن مع تراشق التصريحات المنددة بمواقف الطرف الآخر.
تطوّرات الساحة العراقية الداخلية المتمثلة بقضية الهاشمي وتأجيل مؤتمر المصالحة الوطنية أحدثت فرزاً للقوى السياسية العراقية، اصطفّت وراءه قوى إقليمية، إذ وقفت تركيا وقطر والسعودية إلى جانب القوى المناوئة للمالكي، بينما وقفت إيران إلى جانب حكومة المالكي. ذلك كلّه بينما فقدت سوريا دورها الإقليمي في المنطقة، وتحوّلت إلى مسرح تتنازعه الإرادات الإقليمية والدولية، وانقسمت بين نظام تدعمه إيران، ومعارضة تحتضنها تركيا، وتقدم لها كل أنواع الدعم. ومع انشغال الدولة العربية الكبرى مصر في ترتيب أوضاعها الداخلية، سوف يكون الدور الخليجي المستقر أمنياً من الداخل الفاعل الأهم في القرارات العربية. وتكمن مصالحه في الحد من النفوذ الإيراني في الوطن العربي، والعمل على إسقاط النظام السياسي في سوريا.
تصبّ مصالح الدول الغربية والإقليمية في الوقت الراهن في سوريا، والتي ستكون مسرحاً للتعبير عن تلك الإرادات، وسيحدد هذا الصراع طبيعة النظام الإقليمي الجديد. وحتى ينحسم ذلك سينقسم النظام الإقليمي في الوطن العربي في إطار تفاعله مع الدول الناشطة جيو استراتيجياً إلى 3 تكتلات رئيسية، هي: محور يضم إيران وحكومة المالكي في العراق، مدعوماً من قبل روسيا والصين؛ ومحور يضم تركيا ومجلس التعاون الخليجي مدعوماً من قبل الولايات المتحدة الأميركية؛ ومحور يضم القوى الديموقراطية العربية الناشئة، ممثلة بتونس ومصر، إذ ترفض كل من الحكومتين التونسية والمصرية مسألتي تسليح المعارضة السورية والتدخل الخارجي، واللتين تتبناهما الأطراف الإقليمية في المحور الثاني.
وعلى ما يبدو، فإنّ تلك القوى لا تزال تنسق في ما بينها في إطار عقلاني ومحسوب تمثل في حل وسط يرضي الجميع على المدى القصير، وهو الدعم المؤقت لخطة عنان. ويمثل ذلك حالة من التّهدئة المتبادلة والحسابات الدّقيقة للمصالح الخاصة. ولكن قد تتحول صراعات المصالح إلى حالة من الاستقطاب لا يمكن تجنب الصراع فيها عندما ترتبط المصالح بقضايا الأمن القومي.
في حال استمرار الحالة الأولى (التهدئة) فستبقى الأوضاع في سوريا على ما هي عليه إلى عام 2014 في إطار عنف مجتمعي، يفرضه توازن القوى في المنطقة، ولكن يبقى ذلك مرتبطاً بتطور الأحداث في سوريا ومفاجآتها. أما إذا وصل تضارب المصالح بين الأطراف الفاعلة إلى وضع لا مكان فيه للحلول الوسط باعتبار القضية السورية قضية أمن قومي لكل طرف، فسوف تعمل دول المحور الثاني (دول الخليج وتركيا) على تمويل وتدريب عناصر ما يسمى «الجيش السوري الحر» على نحو أكبر، ما سيدفع النظام السياسي في سوريا إلى الرد بطرق مختلفة. طرق تفتح المجالات إلى احتمالات متعددة، أكثرها كارثية على سوريا والمنطقة هو التدخل العسكري، تحت ذريعة التدخل الإنساني، ليس من ناحية سياسية فقط، وإنما لأبعاد تتعلق بالبعد الاجتماعي في المشرق العربي.
* باحث سوري ــ الدوحة