قد يظنّ البعض أنّ قلة الكلام عن آثار بيروت منذ فترة طويلة تشير إلى أنّ الأمور على خير ما يرام. إلا أنّ المراقب المتخصّص لا بد أن يقف مستغرباً أمام وقائع كثيرة نطرح بعضها بعيداً عن كل خلفية جدلية، فما يهمّنا هو تراثنا والحفاظ على القليل الباقي منه، في قلب عاصمتنا الوطنية التي كانت يوماً أم الشرائع.
أولاً: في الوضع القانوني
يفرض القانون أن يشرف على الحفرية الأثرية إما آثاري ذو خبرة في المديرية العامة للآثار، وإما أستاذ جامعي موفد من قبل جامعة أو معهد عال للآثار. وقد طبّق هذا القانون بحزم حتى في أيام عز سوليدير وبطشها، إذ شاركت فرق عدة زادت على العشرين، من جامعات لبنان وعدد من الجامعات الأوروبية والعالمية.
منذ 2005، استُبعدت الجامعة اللبنانية عن الحفريات في بيروت، بحجة أنّها لا تملك ما يلزم من التمويل، واستبعدت الجامعات الأجنبية بحجّة أنّها لا يمكن أن تهتم بآثار لبنان أفضل من اللبنانيين، وبحجّة أنّ العلماء الأجانب لا يأتون إلا لمصالحهم المالية. مع العلم أنّ البعثات الأجنبية تأتي ومعها تمويلها الخاص، ولا تكلّف لبنان شيئاً. ولسدّ هذا الفراغ المفتعل، سُلّمت كل حفريات بيروت الى شركة خاصة أسسها أشخاص لا يزالون طلّاباً، ولم يُنه أيّ منهم شهادة الماستر. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الشركة الى الربح المادي، الذي يشرّع بدوره الأبواب أمام مساومات محتملة على حساب التراث.
ثانياً: في الوضع العلمي
تفرض المنهجية العلمية على الباحث حين يقوم بحفرية أثرية أن ينشر تباعاً نتائج عمله في تقارير علمية (Rapports préliminaires)، تضع المكتشفات الجديدة في متناول المهتمّين من أهل الاختصاص وغيرهم. وتشهد مجلّة «بعل» التي تصدرها المديرية العامة للآثار نقيضين. الأول، أنّ كل الفرق العلمية التي شاركت في حفريات بيروت في التسعينيات نشرت مكتشفاتها وتقاريرها العلمية بمهنية وجدّية، فكانت على مستوى دورها الأكاديمي والعلمي، فوفّرت مادة كاملة لأعداد عدّة من المجلّة، وحفظت لنا بالنص والصورة والخارطة والرسم البياني كل ما اكتشف في بيروت. الثاني، أنّ مجلّة «بعل» خالية تماماً من أي تقرير علمي أو معلومة عن حفريات بيروت منذ ما يزيد على السنوات الست، مع العلم أنّ الحفريات الأثرية لم تتوقّف يوماً طوال تلك المدة. والسبب الرئيسي، في رأينا ـــــ إلا إذا كانت هناك حلقة مخفية ـــــ يكمن في كون من يقوم بالحفريات الأثرية لا يملك بعد القدرة العلمية ولا المنهجية الأكاديمية ولا الخلفية الثقافية الكافية لنشر المكتشفات، مما يعني عمليّاً أنّنا فقدنا ما يقارب سبعين موقعاً أثرياً دون أن يبقى لها أثر، لا على الأرض ولا حتى في الصور.
ثالثاً: في مصير الآثار
أيام عزّ سوليدير وبطشها في التسعينيّات، قمنا بحملات قوية عدّة من أجل الحفاظ على عدد من المواقع الأثرية. كنا ولا نزال على قناعة بأنّه لا بد من أن تبقى بعض الآثار في أرضها لتشهد من جهة على تاريخ بيروت العظيم، ولتصبح في الوقت ذاته محجّة للسياحة الثقافية. وعلى الرغم من التهديدات ومحاولات الرشوة، وعلى الرغم من نظرية هانس كورفر التي تقول بعدم ضرورة إبقاء أيّ موقع أثري في مكانه، استطعنا، مع دعم منظمّة اليونسكو واللجنة الدولية التي ألّفتها، أن نفرض الحفاظ على بعض المواقع ولو القليلة: التل القديم، الحي الفينيقي، موقع السرايا الصغيرة. منذ 2005، حُفر ما يقارب سبعين موقعاً في بيروت. وقد اقتُلع كل ما جرى اكتشافه حتى اليوم، باستثناء موقع ميناء الحصن المكتشف حديثاً، الذي كان موضع مساومة مشبوهة لاقتلاعه. ما الفارق إذاً بين ما كان يفعله هانس كورفر الهولندي، الذي طالبنا غير مرّة بمحاكمته وطرده، وهانس اللبناني، بل إنّ المقارنة بينهما قد تأتي، ويا للأسف، لصالح الهولندي، الذي اتبع طريقة في التبويب دقيقة جداً، ونشر تقاريره العلمية في مجلة «بعل»، فيما لم تنشر الشركة الخاصة بعد تقريراً علمياً واحداً، مما يضعنا أمام كارثة تاريخية علمية، هي من الأخطر في تاريخ الآثار في لبنان. هل من المعقول، وفي قلب بيروت العظيمة في التاريخ، أنّه لم يُكتشَف أي أثر جدير بأن يحافظ عليه في أرضه، مع العلم أنّ عمليات الحفر قد شملت مساحات واسعة جداً، وفي أماكن جغرافية متفرّقة؟ تُرى، من تحمّل ويتحمّل مسؤولية قرار اقتلاع تاريخنا من أرض بيروت؟ نسأل، مذهولين مشدوهين، أوَليس ذلك من حقنا وواجبنا؟
رابعاً: في المسؤولية
ما دامت المديرية العامة للآثار تابعة لوزارة الثقافة، فإنّ هذه الوزارة تعدّ مؤتمنة على آثار لبنان وإرثه التاريخي، وعلى المسؤولين فيها أن يحصروا جهدهم ـــــ لا بل أن يستميتوا ـــــ في الدفاع عن تراثنا العظيم. هذا هو على الأقل مفهومنا نحن لحمل المسؤوليات الوطنية. فما هو واقع الحال؟ منذ آب الماضي، طوّق معالي وزير الثقافة غابي ليّون، نفسه بلجنة صغيرة ممّن سمّاهم أكاديميين. حذّرناه في حينه من خطورة هذا القرار. فهذه اللجنة التي يهيمن عليها من يعدّ نفسه «جوبيتر» الآثار في الشرق كلّه «ستفجّر المديرية العامة للآثار».
أوّلاً: لأنّ هذه اللجنة تأتي بأحلام وعقد لا علاقة لها لا بالتراث ولا بالآثار. ثانياً: لأنّ هذه اللجنة ستلفلف الفضائح، بدلاً من فتح الملفات وإصلاح ما يجب إصلاحه. ثالثاً: لأنّ هذه اللجنة ستخلق فراغاً مصطنعاً من خلال استبعاد العلماء الأجانب، واحتقار العلماء اللبنانيين «لأنّ أحداً منهم لا يستحق الدكتوراه التي يحمل»، وذلك من أجل أن تُحكم قبضتها على المديرية. رابعاً: لأنّ هذه اللجنة ستنتقم من بعض الموظفين «الأعداء» لثأر قديم يدغدغ بعضاً من أعضائها. ما يحزننا اليوم أنّ ما حذّرنا منه قد حدث بالفعل، بل إنّ اللجنة العظيمة ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير. فهي لم تكتفِ بكل هذا ولا بإعادة الغطاء للشركة الخاصة التي تنظّف بيروت من آثارها، بل راحت تنبش مراسيم وزارية سابقة تقضي بالحفاظ على عدد من المواقع الأثرية في وسط العاصمة، بهدف نسفها والسماح باقتلاع الآثار من أرضها التاريخية، وذلك تحت شعار «التفكيك والدمج»، أي الضحك على الناس. وقد صدر أول حكم بالإعدام على ميدان سباق الخيل الروماني في وادي أبو جميل، في تقرير من خمسة أسطر فقط لا غير. وهو ما عدّه معالي الوزير «إنجازاً مهمّاً». أما «الإنجاز» الثاني، فهو التقرير «العلمي» الذي تعدّه اللجنة العظيمة «لتبرهن» للرأي العام أنّ منشآت المرفأ الفينيقي في ميناء الحصن ليست سوى «مقلع صغير للحجارة» ـــــ والتعبير لأحد «علمائها» ـــــ وهو معدّ بطبيعة الحال «للتفكيك والدمج». وقد بتنا نخشى أن يكون الإنجاز الثالث تحويل التل الفينيقي إلى «مجرّد رجمة من الحجارة يشوّه وجودها قلب بيروت ويجب جرفها». ومن يدري، قد تفتي اللجنة بأنّ «أعمدة بعلبك ليست في مكانها التاريخي، ومن الأفضل تفكيكها ودمجها في وادي البردوني». إنّ ما يجري في بيروت اليوم يمكن اعتباره ـــــ كما كان الوضع أيام سوليدير ـــــ مجزرة حضارية كبرى. ومن حقنا أن نسأل بالصوت العالي: لماذا هذه الحماسة الزائدة في التفريط بآثار بيروت؟ هل هي حقاً المصلحة الوطنية؟ أم «الذوق الفريد» في تجميل المدن؟ أم الجهل بكل بساطة؟ أم ـــــ وفق ما تردّده الشائعات القوية ـــــ غير ذلك؟
* أستاذ الفنون والآثار الفينيقية، ورئيس سابق لقسم الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية
6 تعليق
التعليقات
-
الى contre corruptionشكرا لردكم، الكل مستاء من الوضع العام ومن الفساد المستشري في لبنان وداخل الوزرات، ولكن الجدل القائم حول مقالة الأستاذ كرم لا علاقة له ب 8 أو 14 آذار. كل ما يهمني هو ايضاح واقع بعيدا عن السياسة وزواريبها وتجّارها. الوضع الآن في بيروت أحسن حالا مما كان عليه منذ عشر سنين ولو تشوبه عيوبا كثيرة. عذرا أيها القارئ فأنا لست أ.س.، أنا مواطن لبناني مولع بترات مدينتي ومطلع على مايجري ولاسيما ما تكتبه الصحف، وانا أزور مواقع بيروت بانتظام منذ 1995. ما كتبته سابقا عن تمويل التنقيبات ليس قانونا، فأنا أعرف جيدا قانون 1933 (المنصوص أيام المندوب السامي الفرنسي في لبنان). هناك آلية جديدة لتمويل الحفريات تم الاتفاق عليها منذ سنوات قليلة وهي سارية ضمن نطاق عمل شركة سوليدير وطبعا هي قانونية وليست من اختراع تكتل حزب ميشال عون.. مفعول هذه الآلية ساري منذ أيام الوزير وردة وسلفه المحسوبان على أعداء تكتل عون. فالأمر لا علاقة له بالسياسة.. قد تكون بداية الحلول هي كتابة قانون عصري للآثار.. وشكرا
-
الى المجهولرداً على ما ورد في مقالة المجهول، لا بدان نذكر هذا الكاتب "المجهول" اي أ. س. الغير مدرك حتماً لقانون الآثار والمسوق لشعارات زائفة وغير موجودة ولا تحمل اي قيم في مجال العلم،انه ليس هناك من قانون يجبر صاحب العقار على الدفع وذلك لإستنارة الرأي العام لاسيما المستثمرين لكون وزارة الثقافة قدأصبحت وزارة الإستثمار لذا لا بد من مراجعة قانون الآثار الصادر سنة 1933 قرار رقم 166/ل.ر الباب الثالث في الحفريات: لاسيما المادة 62 " ... يعوض الطالب (اي المديرية العامة للآثار في حالة بيروت) على أصحاب الأرض الضرر الذي تسببه الحفريات او يستأجر الرض بموجب صك إجار ..." هل صاحب الأرض مجبر على الدفع ام هي هرطقة سوليدير وبعدها كتلة الأصلاح والتغيير
-
ردا على مقالة الأستاذ ناجي كرم المحترمالكل يعرف الدكتور ناجي كرم وحرصه على آثار لبنان وخصوصا بيروت..والكل يعرف نزاهته و أنه من الأشخاص الذين ناضلوا من أجل تراث بيروت...ولكن صرخته هذه مبالغ فيها ومقاربته ما بين ما يحصل اليوم في بيروت وما حصل أيام اليد المطلقة لسوليدير هو أمر مبالغ فيه وفيه الكثير من الشوائب. كان عالم الأثار هانس كورفرز يحفر المواقع بسرعة ضوئية ويوثقها بشكل بعيد كل البعد عن الدقة العلمية ثم يأمر برميها في مكب النورماندي، أما تقاريره ومنشوراته في بعل فحدّث ولا حرج.. أما اليوم فالحالة مختلفة جدا: هناك فرق من الجامعات اللبنانية تحفر توثق وتنشر أما الفرق التابعة مباشرة لمديرية الأثار فهي تقوم بعمل ممتاز من حيث التنقيب والتوثيق واذا كان على رأس هذه الفرق أشخاص لم يحصلوا بعد على شهادات الدكتوراه فهذا لم يمنعهم من أن يضعوا المكتشفات الحديثة في متناول أيدي أعداد هائلة من طلاب الماستر والدكتوراه. معناه أن هذه المكتشفات لن تضيع ولن تهمل ومعناه أنها الآن قيد الدرس وطبعا ستنشر. فالحديث عن أنها ضاعت ولم ولن تنشر غير صحيح. أما في ما يتعلّق بموضوع الابتزاز المالي فالكلام غير صحيح اذ أن من واجب صاحب العقار أن يدفع للفريق الأثري بهدف تمويل التقيبات. وفي ما يختص بموضوع المواقع بعد حفرها فهناك مواقع حوفظ عليها ومواقع أخرى ستدمج في البناء. ولو قبلت سوليدير منذ التسعينات بهذه الحلول لكان حوالي مئة موقع (من المواقع التي جرفت) محافظ عليها ضمن البناء الحديث أوبقربه أو مكانه..تخيلو فقط ...أما المواقع الأثرية التي تفكك فهي تحفظ في مستودعات المديرية العامة لللآثار اليوم. وشكرا
-
صرخة ضميرسبق وأن أسميت الحلقة المحيطة بالوزير بالحلقة السوداء علما بأنك وهذه الحلقة من نفس الخط السياسي لمعاليه، ولكن لا مجال للمقارنة بين شعاراتك وحروبك الطويلة في سبيل المدافعة عن الآثار، وبين النهج المعتمد حاليا في مقاربة موضوع الآثار، فسياسة الفك والدمج الذي سوقها الشريك الأساسي في الشركة الخاصة (أ.س.) المتعاقد في المديرية العامة للآثار، يشوبها الكثير من الكذب والضحك على الناس ولا أسس علمية لها، معيارها الأساسي والوحيد هو الإبتزاز المالي للمستثمرين .أين القضاء ؟ أين التفتيش المركزي؟ حافظوا على صورة نقية لبيروت العريقة تاريخيا . ماذا سنترك لأولادنا؟ آثار مدمرة ومعفنة في المستودعات أو حتى قد يجدون طريقة لتسويقها وبيعها....
-
أين التغيير؟؟؟؟؟؟؟؟؟تحية لك من القلب يا دكتور كرم، فالمعروف عنك صدقك ونزاهتك وجرأتك في معالجة الأمور، هذا ما يرعب وزير الثقافةالذي يفتقر للمعرفة وخير شاهد على ذلك قرارته العشوائية إذ أصبح المدافع الأول عن المستثمرين فباتت المديرية العامة للآثار مديرية تابعة لمديرية مستحدثة تدعى وزارة المستثمرين والرأسماليين ومسرحا لتبييض الأموال.... مرحبا يا إصلاح ونوما هنيئا يا لا تغيير