لا شك في أنّ الهبّة الشعبيّة والانفجار الذي حصل في المنطقة لهما جذورٌ اقتصاديّة اجتماعيّة أساساً. فالذي دفع بهذه الكتل البشريّة للانتفاض سلمياً ومواجهة الرصاص والإجرام بصدور عارية يتعلق أساساً بعدم قدرة هؤلاء الشباب على احتمال حياة الفقر والقهر والبطالة وانعدام الأمل في المستقبل. مع ذلك فإنّنا نلمس أحياناً كثيرة عدم قدرة هذه الكتل المتفجّرة على التعبير عن المطالب التي دفعتها إلى الانتفاضة هذه الصورة، وبالتالي عدم قدرتها على بلورة مطالبها بشعارات واضحة وتحديد واضح للمطالب والمشاكل الحياتيّة التي يعانيها الإنسان العربي، ونلمس تغطية هذا القهر والفقر بشعارات دينية للتعبير عن رفض الواقع والرّغبة في التخلّص منه والانقضاض عليه، شعارات نابعة من ثقافةِ المنتفضين. إنّ الأسباب التي دفعت هذه الكتل البشريّة للانفجار أساسها الأحوال المعيشية الصعبة، من فقر وبطالة وتهميش وغلاء معيشة، بالترافق مع الاستبداد والقهر والإخضاع. ظهر ذلك في تونس، التي بدأت الانتفاضة فيها في سيدي بوزيد، المدينة الفقيرة والمهمّشة، وامتدّت بعدها إلى سائر المدن الأخرى، منها طبقات متوسطة واسعة، تعاني الاستبداد والإخضاع والاستلاب. وكذلك في مصر التي يعاني أغلبية سكانها من بطالة عالية وفقر فاحش، كذلك ليبيا وسوريا والبحرين والسعوديّة وعُمان والكويت... كل تلك القطاعات التي انفجرت، تعاني أسوأ أشكال الاستغلال والاستبداد. مع ذلك، يظهر بوضوح عدم قدرة الشعوب الثائرة على بلورةِ شعاراتٍ تعبّر عن مشاكلها وهمومها، وبالتالي مطالبها. وتتركز هذه المشكلة أكثر عند الشعوب التي لم تراكم خبرة نضالات واحتجاجات قبل الثورة، كما راكم المصريون والتونسيون، بعكس السوريين مثلاً. وكذلك انعدم الوعي السياسي للشباب المنتفض، الذي أسّست له السّلطة. وعدم وجود أحزابٍ ونقابات تعبّر عن المنتفضين وتؤطّر حركتهم، لتسريع تطوير الانتفاضة في الاتّجاه الذي يخدم الشعب، وانتصارها بأقل التكاليف، ولحماية الانتفاضة من انتهازيّة النّخب والأحزاب والخطابات المنحرفة التي لا تمثّل الانتفاضة، وتسعى إلى السلطة من دون برنامج حقيقي يعمل على حل مشكلات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.ما نحتاج إليه من أجل ضمان نجاح حقيقي وسريع في حل المشاكل التي دفعت القطاعات الشعبيّة الواسعة إلى الانتفاضة، هو ضرورة قيام قوى شعبيّة من داخل هذه القطاعات، تعبّر عن انتفاضتها وتساعدها على تحديد مطالبها وأهدافها والإصرار عليها، بالتالي تسريع تطوير الانتفاضة.
إنّ المقياس الحقيقي لمدى نجاح الثورات العربيّة هو في عمق تحقيقها للمطالب المعيشيّة الأساسيّة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحل المشاكل العميقة التي يعاني منها القِطاع الأساسي من الشعب الثائر. بمعنى أنّ النجاح الحقيقيّ، والعميق والجذري للثورة الشعبيّة العربيّة ــ والعالميّة ــ يتمثّل في تغيير النّظام الاقتصادي الاجتماعي الإخضاعي الاستغلالي الذي أفقر البشر وأذلّهم لعقود، ودفعهم أخيراً إلى الانتفاضة. أو على الأقل، فسح المجال للتأسيس لهذا التغيير الجذري في مرحلة مقبلة، واستبدال هذه النّظم المستبدّة بأخرى تحقّق العدالة الاجتماعيّة والحياة الكريمة للشعوب المنتفضة، إلى جانب الحرية والديموقراطية والتحرر من كل أشكال الاستبداد والقمع والتجهيل. وليس المطلوب من الثورة فقط تحقيق تحوّلات سياسية شكلية، لا تغيّر من الواقع المعيش على الأرض.
في ميدان التحرير رأيت شعاراتٍ متعدّدة، تعبّر في مجملها عن مطالب وهموم المصريين الحقيقيّة والبسيطة. وصدمت من تغطية الإعلام لتظاهرات الميدان، إذ قال ــ فقط ــ بأنّ ثوار التحرير يطالبون بـ«تسريع تسليم السّلطة للمدنيين». في حين أنّ الحقيقة هي أنّ ثوار التحرير يطالبون من خلال أغلب الشعارات التي يرفعونها بتحسين ظروف المصريين، إلى جانب مطلب إسقاط حكم العسكر، لأنّهم باتوا يدركون أنّه عقبة في طريق تحقيق مطالبهم.
وفي أحداث بورسعيد، لو اعتمدت على الإعلام فقط لما وصلت إلى إجابة عن مسؤولية وزارة الداخلية، بينما كل الأحداث هناك تشير إلى مسؤوليّتها الفاضحة عن تدبير الحادثة الفظيعة. تغطية أجهزة الإعلام تلك لا تخدم سوى أجندة سياسيّة محدّدة، تدعم وصول قوّة محدّدة إلى السّلطة في مصر، هذه القوّة هي صاحبة المصلحة في قول إنّ الثوّار يريدون «تسريع تسليم السلطة لمدنيين». الحقيقة هي أنّ الثورة تريد تحقيق مطالبها التي اندلعت لأجلها، وتريد انتزاع السلطة وتسليمها لمن يحقّق مطالب الثورة كاملةً، أي إلى «سلطة ثورية». إن العالم الذي يحكمه المال، يسعى جاهداً إلى تشويه الثورة وإجهاضها وتجنّب تغييرٍ جذريٍ لمصلحة القطاعات الساحقة من المجتمع. إنّ النّظام العالمي إلى جانب أجهزته الإعلاميّة، متواطؤ ضد الثورة والمطالب الحقيقيّة للشعوب، التي تخشى تلك الأنظمة من تحقيقها. فتسعى إلى تصويرها على أنّها ثورة ديموقراطية، كأنّ الشباب المهمش والعاطل من العمل، نزل إلى الشوارع ليواجه رصاص رجال أمن النّظام، من أجل استبدال نظام استغلالي ديكتاتوري بنظام استغلالي آخر أقل ديكتاتوريّة، وديموقراطيّة زائفة، غير عادلة، تُبقِي السّلطة الحقيقيّة بيد طبقة الاستغلال الحاكمة نفسها.
إنّ نجاح الثورة المصريّة في تجاوز كل العقبات والتحدّيات، وفرض بديلٍ جذري، سيدفع شعوب العالم أجمع ويشجّعها على تبنّي الخيار الثوري من أجلِ حلّ أزمَتها. انتصار الثورة المصريّة والثورات العربيّة انتصارٌ لشعوبِ العالم أجمع. هذا ما يُدركه ويخشاه النّظام العالمي جيداً.
* كاتب أردني