أثار الموقف السعودي في مؤتمر «أصدقاء سوريا» الذي عُقد في 24 شباط المنصرم في تونس، اهتماماً كبيراً، واستغراباً أكبر. ففي تقاليد المؤتمرات أنّ ممثل السعودية لم يكن يبادر بالانفعال وبالتصعيد، وإن كان يضطر إلى الرد على من يتناولون حكام المملكة، بشيء مما استخدموه من اتهام أو تهجم أو انتقاد. ذلك كان يعني على نحو أساسي، أنّ المملكة تفضل سياسة العمل خلف الجدران المغلقة، وبعيداً من الأضواء والضجيج. وهي، في امتداد ذلك، لطالما اعتمدت دبلوماسية هادئة، معوِّلة على نحو أساسي في دعم سياساتها ومواقفها، على استخدام إمكاناتها المالية الهائلة، لكن ذلك لم يكن يعني، في المقابل، أنّ سياسات وعلاقات المملكة كانت غامضة أو ملتبسة. على العكس من ذلك، فقد ثابرت قيادة المملكة على اعتماد نهج صارم في التحالف مع «الغرب» الأميركي والأوروبي، بكل ما يمليه ذلك، على صعيد المنطقة والعالم، من التزامات وخدمات وتبعية.
لكن الأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق في ربيع 2003 الى اليوم، هي ما دفع بالقيادة السعودية، تباعاً، الى اعتماد أساليب جديدة: مباشرة وحادة وهجومية. التطورات الأخيرة للأزمة السورية هي أحد أهم الأسباب. ذلك أنّ قيادة المملكة كانت تتوقع ضغطاً دولياً أكبر على دمشق. وحين أفشلت كل من موسكو وبكين إصدار قرارات باسم الشرعية الدولية ضد النظام السوري، انبرى الملك السعودي لإعلان «خيبته» من المؤسسات الدولية، التي بدت كأنّها حتى ذلك التاريخ كانت تقوم بدورها على أحسن ما يرام! وكانت المملكة، قبل ذلك، قد انضمت الى اللجنة العربية المكلفة متابعة الوضع السوري، دون أن تكون عضواً فيها. وهناك مارس وزير خارجية السعودية، وهو بالمناسبة أقدم وزير خارجية في العالم، دوراً مباشراً في الضغط والتحريض والترغيب، وخصوصاً في أوساط ممثلي السلطات الحديثة في كل من مصر وتونس، وذلك بإغرائها بالمساعدات والدعم والقروض... إنّ دور المملكة هو، في الواقع، الذي مارس التأثير الأساسي في استصدار قرارات الجامعة العربية بشأن سوريا: إرسال المراقبين في المرحلة الأولى، «والمبادرة العربية» في المرحلة الثانية، ومن ثم طرح الموضوع السوري في مجلس الأمن والجمعية العمومية، في المرحلة الثالثة. لا يغيّر ذلك من حقيقة أنّ ملك قطر ورئيس وزرائها، قد مارسا أيضاً دوراً مميّزاً، من الناحية السياسية والإعلامية، في الأزمة السورية وفي الترويج للتدخل الخارجي السياسي والعسكري لدعم المعارضة ولإسقاط النظام...
لسنا بحاجة إلى إقناع أحد بأنّ القيادة السعودية لا تسعى، فعلاً، من أجل نشر الديموقراطية في سوريا. إنّها تسعى، في ظروف اندلاع الأزمة السورية، وعدم قدرة النظام السوري في دمشق على امتصاص أسبابها السياسية والاجتماعية، إلى تحقيق أهداف تتصل بمجمل الوضع الاقليمي والصراعات الدائرة فيه. ولقد بكّرت المملكة في المشاركة في لقاءات واجتماعات عامة وثنائية، بإشراف وتنظيم أميركيين، لإعادة رسم مجمل المشهد السياسي في المنطقة، بحيث يصبح الصراع العربي الإسرائيلي صراعاً ثانوياً وهامشياً، لا تقام على أساسه العلاقات والتحالفات، ولا تنتظم وفق موجباته الأولويات والمهمات.
ولكي لا نذهب بعيداً في الزمن، نذكِّر بما أقدم عليه مجلس التعاون الخليجي من بسط مظلته فوق نظامي المغرب والأردن، أواسط السنة الماضية. ثم بعد ذلك، أقدم مجلس التعاون الخليجي على تبني دعوة قيادة المملكة السعودية الى رفع درجة العلاقة بين أعضاء المجلس الى مستوى الاتحاد. وقد كان التدخل السعودي العسكري في البحرين لقمع الانتفاضة السلمية في ذلك البلد، دافعاً وحافزاً وأنموذجاً في آن واحد.
إن المملكة السعودية التي تُدار عبر أسوأ أنواع الأنظمة المحافظة والفردية والاستبدادية في العالم، ترمي إذن، من وراء تدخلها في الأزمة السورية إلى هدف لطالما كان مضمراً بسبب بشاعته من جهة، وبسبب عدم ملاءمة الظروف من جهة ثانية. والهدف هذا، هو إطلاق يد واشنطن وتل أبيب في تقرير مصائر المنطقة، وفي المقدمة من ذلك فرض حل للأزمة الفلسطينية يتنافى تماماً مع مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني في أبسط صورها وأشكالها.
في خدمة هذا الهدف، يجري توجيه الصراع نحو إيران والفرس والشيعة. ويصبح بالتالي، مطلوباً إسقاط التحالف السوري ـــــ الإيراني، وكذلك الدعم الروسي والصيني لهذا التحالف. ويندفع وزير خارجية المملكة الى حدود الدعوة الى تسليح المعارضة، وإلى رفع شعار إسقاط النظام السوري بالقوة.
ويقتضي القيام بدور مباشر من قبل قيادة المملكة بدون قفازات ولا تمويه، أن تُوظف المملكة السعودية إمكاناتها الهائلة، فيما كان قد طالبها به الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الثاني، حين حثّها على القيام بما ينبغي لها في المنطقة من أدوار ومسؤوليات. وكان ولا يزال من ضمن ذلك، الانخراط في حلف يتجه لأن يصبح معلناً مع إسرائيل، والتركيز على الخطر الإيراني بوصفه مصدر التهديد الوحيد لأمن الخليج والعرب ولمعتقداتهم واستقرارهم... ووضع النفط على نحو شبه كامل في خدمة المعركة: أسعار النفط وكمية الإنتاج والإيرادات الأسطورية. ولقد كانت آخر الصفقات المعلنة في هذا الصدد صفقة جديدة أبرمت في الأيام الأخيرة من السنة الماضية بقيمة ثلاثين مليار دولار بين المملكة وواشنطن، لشراء طائرات أميركية جديدة وتحديث أخرى، بمعدل ثلاثة مليارات ونصف مليار سنوياً...
ولا تسير المحاولات السعودية في الاتجاهات المذكورة وحدها. فثمّة جهد، في المقابل، لاحتواء الوضع الفلسطيني، ولتدجين قوى فلسطينية ترفع شعارات جذرية في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، وتصنفها واشنطن في لائحة القوى «الإرهابية».
وتواصل المملكة نهجها بأهدافه القديمة وأساليبه الجديدة، وسط حملة تضليل إعلامي لا مثيل لها. وتضطلع في التغطية والتواطؤ مؤسسات وقوى ونخب أفقدتها شهوة الارتزاق كل حس بالمسؤولية «الدينية والإنسانية»، التي تدعي قيادة المملكة أنّها توجه سياساتها ومواقفها. ويفعل المال السعودي فعلاً سحرياًً، ولو بطرق سريالية أحياناً ومتذاكية دائماً، لدى البعض ممن لا يزال يرى، عندما يتعلق الأمر بالملكيات أو بأنظمة المحاصصة الطائفية، أنّه ليس في الأمر ما يستحق التبديل أو التغيير أو التطوير!
إنّ قيادة المملكة تخشى الحرية بقدر ما تخشى التحرر من الهيمنة والاحتلال. الفصل بين الأمرين أثبت، خلال السنة الماضية على الأقل، نقصاً خطيراً في جهاز مناعة «الممانعة»! هذه هي الخاصرة الضعيفة في الجبهة الممتدة من بكين الى إدلب!
* كاتب وسياسي لبناني