تستعصي الأزمات على التوصيفات البسيطة والحلول السهلة، كلّما طال أمدها، وتشعّبت عناصرها، وتداخلت مع ما سواها من الأحداث والمستجدات والمصالح. ينطبق ذلك الآن على الأزمة السورية، فهذه الأزمة التي انفجرت تحت تأثير حاجات الداخل وتناقضاته، لم تعد كذلك، فقط، منذ تبيّن أنّ النظام السوري عاجز عن التعامل مع أسبابها والحلول، بالطريقة الإيجابية المناسبة. لقد تجاهل النظام السوري الأسباب الداخلية، ونسب الاحتجاجات إلى مصادر تحريض وتحريك خارجية. وهو لجأ إلى محاولة الحسم العسكري والأمني بدل الحوار وبدل اختبار المعالجات السياسية: لقد تحدّث عن الإصلاح، لكنّه قدّم كلّ الأسباب لكي يظهر بمظهر من يداور ويناور ويؤجّل ويماطل من أجل إبقاء القديم على قدمه دون نقصان أو تعديل.ودون إسقاط دور العوامل والأسباب الخارجية في تحفيز، أو حتى تحريك الاحتجاجات، في مرحلتها الأولى، فإنّ اعتماد الحلّ الأمني من قبل السلطات السورية، ومن ثمّ لجوء أطراف في المعارضة إلى استخدام العنف والسلاح، قد ألغيا كلّ فرص الحلّ الداخلي، وشرّعا الأبواب واسعة أمام التدخلات الخارجية.
في امتداد ذلك، تتفاقم الآن الخسائر من كلّ نوع: البشرية والمادية والاقتصادية والاجتماعية... هذا فيما تنعدم كلّ فرص الحوار بين السلطة والمعارضين، بحيث إنّه لم يعد أحد يتحدّث عن هذا الأمر: ببساطة، بسبب تعذّره، وبسبب إهماله، وبسبب جنوح المعنيين، في المعارضة خصوصاً، إلى بدائل أخرى أمنيّة أو خارجية: عربية أو دولية.
ولا يدور الصراع على سوريا في سوريا فقط. هو لم يكن كذلك في الماضي، وهو ليس كذلك الآن. ذلك بسبب أهمية سوريا وموقعها ودورها. وأيضاً بسبب أنّ الصراعات اليوم، في عالم التواصل والتفاعل الشاملين، قد أصبحت صراعات مفتوحة لا يمكن حصرها أو عزلها. وفي هذا السياق ليست المبادرة العربية إلا جزءاً من هذا الصراع. إنّها لعب في الوقت الضائع بالنسبة للطرف الداخلي السوري والخارجي العربي والأجنبي، بانتظار تدويل يقلب المعادلات والنظام جميعاً على غرار ما حصل في ليبيا أو في تجارب سابقة، خصوصاً في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية التي اختارت نهج الانحراف الستاليني وسقطت به ومعه.
قلنا إنّ المبادرة العربية هي لعب في الوقت الضائع، بسبب أنّ الجامعة العربية لا تملك قوة التأثير والتقرير والتدبير الضرورية. كذلك بسبب أنّ الأطراف النافذة من تلك المؤسسة القاصرة عن تجسيد المصالح العربية المشتركة، إنما تتحرّك الآن تحت تأثير مجلس التعاون الخليجي، وبهدف تبرير التدويل من خلال الفشل لا من خلال النجاح! ويلاقيها على المقلب الآخر، ولو اختلفت الأهداف، الطرف الرسمي السوري الذي يواصل سياسات المكابرة والتفرّد والتنكّر لموجبات المشاركة والإصلاح نفسها، ولو في الحدود الدنيا الضرورية.
إنّ ما يجري من توتر حول مضيق هرمز ارتباطاً بالتهديد الأميركي بمنع تصدير النفط الإيراني، إنّما هو أيضاً، وأساساً، جزء من الصراع الدائر في سوريا وعليها. فلقد «صمد» النظام السوري حتى الآن، واستعصى على الخضوع والسقوط، بعد نحو عشرة أشهر على بدء الاحتجاجات الشعبية. وهو مدين بذلك، إلى حدّ كبير، للدعم الإيراني المتعدّد الوجوه والأشكال والعظيم الأحجام في كلّ الحالات. لا شكّ في أنّ الملف النووي الإيراني هو ملف أساسي واستراتيجي ومتفجّر، منذ أن اتجهت السلطات الإيرانية إلى السعي لتطوير برامجها النووية لأغراض مدنية قائمة وعسكرية محتملة. ولذلك فإنّ ملف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قد كان ذا أولوية ما بالنسبة لواشنطن وحلفائها لمحاصرة حزب الله وحلفائه السوريين والإيرانيين (فضلاً عن اللبنانيين أيضاً). لكنّ أولوية الضغط على سوريا هي ما تتقدّم على سواها الآن. وكذلك تتجه واشنطن وحلفاؤها إلى محاولة «تجفيف» مصادر الدعم والتمويل الإيرانيين لسوريا. والتهديد بمنع تصدير النفط الإيراني هو الذي يمكن أن يؤدّي بامتياز إلى هذا الهدف، فضلاً عن تأثيره الكبير على الوضع الداخلي الإيراني الذي يشهد المزيد من الاحتقانات السياسية والاجتماعية، كما يشهد انقساماً على صعيد السلطة نفسها ما بين مؤيّدي سياسات وطموحات رئيس الجمهورية الإيراني أحمدي نجاد وما بين معارضي هذه وتلك. وهكذا فالضغط الاقتصادي على إيران يصيب كلاً من الوضعين السوري والإيراني، فضلاً عن أنّه أيضاً يفرمل اندفاعة إيران للعب دور إقليمي متنام. إنّ «التهديد» الإيراني هو الآن موضع توجس متصاعد من قبل دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية. وهو موضع استغلال من قبل واشنطن التي تستنزف المزيد من ثروات وموازنات تلك الدول في الحماية والتدريب والتسلح الذي كانت آخر صفقاته بقيمة ثلاثين مليار دولار مقابل بضع عشرات من المقاتلات الأميركية التي تبقى، مع ذلك، تحت القيادة الأميركية المباشرة!
ليست روسيا، في هذا السياق، خارج محاولات ممارسة الضغط الأميركي على قيادتها، بعدما اعتمدت موسكو سياسات مثابرة ونشيطة في دعم النظام السوري سياسياً وعسكرياً. تزوير الانتخابات هو الذريعة. لذلك تدعم واشنطن الآن تحرّكاً شعبياً روسيّاً معارضاً ضاغطاً على «رجل روسيا القوي» رئيس الوزراء الحالي والمرشح الرئاسي المقبل فلاديمير بوتين، احتجاجاً على التزوير. الواقع أنّ التزوير قد حصل. لكنّه هذه المرة أقل مما كان يحصل في السابق: إلا أنّ واشنطن تتحرّك وتحرّض، الآن، بسبب «شغب» بوتين على سياستها خصوصاً في الشرق الأوسط منذ قرّرت استبعاد روسيا عن التأثير في شؤون المنطقة مكتفية برمي بعض الفتات لحلفائها الأوروبيين.
ما ذكرناه وما لم نذكره من تفاعلات ومداخلات خارجية في الأزمة السورية، لم يكن له أن يبلغ هذه الأحجام القائمة والمتوقعة، لولا انعدام الديناميات الداخلية للمعالجات. إنّ النظام السوري هو المسؤول الرئيسي عن ذلك. و«المسيرة الإصلاحية التي يقودها الرئيس بشار الأسد» تحتاج إلى ترجمة مباشرة من غير الطبيعة التي اعتمدت حتى الآن. إنّ النظام السوري مطالب باستعادة طرف الخيط الداخلي الذي ربما يمكّنه من استعادة زمام المبادرة، بالحوار وبالتفاهم مع معارضيه، وبما يعيد الأزمة إلى الداخل بعدما أضحت تقريباً في يد الخارج!
إنّ إسقاط النظام السوري وسياساته في الحقل الخارجي، هو هدف تسعى إليه واشنطن، دون أدنى شك. لكنّ إغراق ذلك النظام في أزمة داخلية مديدة تستنزفه وتضعفه وتجعله خارج التأثير، يمكن أن يؤدّي نفس الغرض أيضاً. فسوريا الآن منشغلة بنفسها وبمشاكلها الداخلية التي تزداد تأزّماً وتعقداً وتستدرج المزيد من التدخلات الخارجية.
لقد تناول الرئيس السوري بشار الأسد مجمل العناوين الأساسية في خطابه أوّل من أمس. وإذا كان لا بدّ من الإشادة بأسلوبه المباشر وشبه العفوي في تناول الأمور، فإنّ الخشية من أن تكون السلطات السورية، لا تزال تراوح في المكان نفسه، ولا تزال قائمة أيضاً. إنّ السلطات السورية هي، مثلاً، على حق، في كلّ مرّة تشكّل فيها بصدق نوايا خصومها الخارجيين والعرب في دعمهم للإصلاح في سوريا. لكنّ الإصلاح، مع ذلك، أكثر من ضروري. إنّه حقّ للمواطن. وهو حق أيضاً، يتصل اتصالاً وثيقاً بكرامته وبحرّيته وبدوره الطبيعي في المشاركة وفي المساهمة في تقرير مصيره ومصير وطنه.
إنّ معركة الإصلاح، هي، قبل ما ذكرنا وبعده، معركة سوريا الأهم وسلاحها الأمضى في مواجهة قوى الهيمنة والنهب والاحتلال وأنظمة التسلّط والتخلّف والتبعية. إنّ الحرية هي صنو العروبة والوحدة: ألم يكن الأمر كذلك حين صاغ مؤسسو «البعث» ثالوثه الشهير: «وحدة حرية اشتراكية»؟
* كاتب وسياسي لبناني