مقداد نديم عبود *


نسلّط الضوء، اليوم، على واحدة من أهمّ قضايا المشرق، قضية العلاقات اللبنانية ـ السورية، ونناقش القول فيها انطلاقاً من الفلسفة التي أنزلها ناصيف نصّار، كما يقول، من عليائها، ليقارب تلك العلاقات في نص هدفه استدراك الحوار حولها من وهدة اليوميات والدوغمائيات، إلى مائدة التشريح الفلسفي.
للفيلسوف نصّار، برغم الخلاف معه في منطلقاته واستنتاجاته معاً، فضل الاشتغال على علاقات البلدين التوأمين، فلسفياً، إنما الدعوة إلى هذه المبادرة، جاءت من الرئاسة السورية التي عقدت، في عام 2009، بمناسبة إقامة علاقات ديبلوماسية بين دمشق وبيروت، «مؤتمر العلاقات اللبنانية السورية»، ووجدت أنّ للفيلسوف مكان الصدارة في هذا المؤتمر، وفي التنظير لتلك العلاقات التي ظلت، ولا تزال، أسيرة أزمة مزمنة.
نستعيد مع صاحب « طريق الاستقلال الفلسفي»، تلك اللحظة، مدركين أن تطوّر الأحداث، في ما بعد 2011 وحتى الآن، انتقل بالقضية من رؤية تنطلق من تجاوز الالتباسات التاريخية، والشروع في بناء علاقات ثنائية راسخة بين دولتين مستقلتين، إلى عودة التاريخ، بكل ثقله، لكي يهدم الحدود بينهما، من خلال التدخل اللبناني الكثيف في الأزمة والحرب السورية، من طرفي المعادلة السياسية في لبنان، وفي سياق تحالف كل طرف مع محوره الإقليمي والدولي.

أثبتت صدمة الحرب السورية ـ ولبنان طرف أساسي فيها ـ أن مقاربة كالتي تقدم بها نصّار للعلاقة بين البلدين، لها مضمون إيديولوجي، لم يصمد أمام مقتضيات الصراع المحتدم على كل مستوى من المستويات التي عالجها. ولكننا نظل، حتى من موقع سياسي صراعي مختلف، في مسيس الحاجة للتعلّم من صاحب «مطارحات للعقل الملتزم»، منهجية سبر المعنى، وطرح الأسئلة النظرية على الواقع السياسي. وهي أسئلة لا تزال مطروحة، لكونها أسئلة تأسيسية:
«ما هي المبادئ والقواعد والقيم التي يختار البلدان أن يعملا بموجبها معاً؟ هل ثمة في منطق هذه العلاقات (اللبنانية ـ السورية) محرك مصيري يجعل التعاون بين البلدين تعاوناً بهدف الاتحاد، وبالتالي تعاوناً مفتوحاً على إمكانية الارتقاء إلى كل الأشكال المتوسطة بين التعاون والاتحاد؟». والإجابة عن تساؤلات كهذه ليست عقائدية أو منطلقة من اصطفاف سياسي ما، بل تتطلب، عند نصار، تدخّل جملة من العلوم الإنسانية في معالجتها، في إطار «الرؤية السياسية الشاملة الناظمة لها، والقرار السياسي الحاسم بشأنها، وفي هذا السياق، لا يمكن استبعاد التدخل النظري من زاوية فلسفية».
يستعرض الكاتب السوري مقداد عبود، هنا، أبرز عناصر هذه المقاربة التي أنجزها نصار في عام 2009، وما زلنا نأمل أن يجد مثقفو خط التحرر الوطني الاجتماعي، الدوافع الملهمة للتفكير في قضايانا الكبرى، الآليات التي يقترحها نصار، «بعقلانية وشمولية، أي بالسعي إلى الارتفاع فوق الانفعالات والهواجس والمواقف المتشنجة والشكليات والشكوك ولعبة التجاذبات والحسابات الظرفية، من أجل تقديم المنظومة على الأطراف الداخلة فيها، واخضاعها للتوضيح المنطقي والتحليل النقدي لغائيتها».
هذا النوع من التفكير ـ وليس مضمونه الأيديولوجي ونتائجه ـ هو ما يحتاجه اليساريون والقوميون والمقاومون في هذه اللحظة من الصراع؛ فالخطاب الذي لا يصدر عن رؤية فلسفية، يظل عاجزاً عن ولادة الحركات التحررية الكبرى.




في بحثه «حول فلسفة العلاقات اللبنانية السورية» (*) قدّم الدكتور ناصيف نصّار، تصوره الفلسفي لطبيعة هذه العلاقات، من حيث شروطها ونجاحاتها وإخفاقاتها ومآلاتها. وقد أقام مقاربته على خمسة مستويات: الديبلوماسية والفلسفة، المستوى الأمني، البراغماتي، المستوى العقائدي، والمستوى النهضوي الحضاري.
انطلقت مقاربة نصار من أن إقامة العلاقات الديبلوماسية بين سوريا ولبنان، لأول مرة منذ انفصالهما في عام 1920، التي تفترض، بطبيعة الحال، الاعتراف المتبادل بسيادة الدولتين واستقلالهما، تعدّ حدثاً تاريخياً يفرض على الفيلسوف، التدخل النظري والتأسيس لما هو مرتجى من تلك العلاقات وفي أي حقولٍ، وطبقاً لأي ترتيب؟ هنا يأتي التدخل الفلسفي ليسهم في توضيح معنى كل ذلك بالنسبة إلى الديبلوماسية بين البلدين، فيصل إلى أن هناك مسلمتين رئيسيتين تحكمان العلاقة بينهما: الأولى، «هي الاعتراف الصريح والصادق بوجود دولتين لشعبين، شقيقين متجاورين، يتمتع كل منهما باستقلاله وسيادته وحريته وتجربته ونظامه»، والثانية، «أن نوع العلاقات بين هاتين الدولتين ليس مفروضاً عليهما من أي جهة، وإنما هو حصيلة إرادة مشتركة مستعدة لدفع التعاون بينهما إلى حدّه الأقصى».
تضمن هذه المقاربة، بحسب نصار، الابتعاد عن المواقف الارتجالية، الانفعالية والمتشنجة، وعن الحسابات الضيقة، لحساب التفكير المنطقي والنقديّ الرصين لمسار العلاقات الثنائية وغائيتها. من شأن هذا التوجّه الفلسفي أن يؤسس لمقولة «المنظومة» في العلاقات اللبنانية السوريّة، أي منطلق المقاربة وطريقتها، أو ما يمكن تسميته وفق المصطلح المتداول الآن «المنظور التوجيهي». فأمر تلك العلاقات لا ينحصر، فقط، في التعاون الاقتصادي، بل هو يتعلق بالمشروع الذي يحدده المستوى التوجيهي الذي يتأتّى عن الرؤية الفلسفية. وعلى هذا تصبح منظومة العلاقات السورية اللبنانية القائمة الآن، في مرمى العين والتحكم، كما التحليل والتوضيح، علاوةً على ضبط المستلزمات وتحديد الغايات والنتائج. وعلى هذا يكون دور النظر الفلسفي في العلاقات بين البلدين، كما يفهمه نصار، «وضع نظرية المستويات التوجيهية الممكنة والمؤسسة لتلك العلاقات». من هذا المنطلق، يسعى إلى بناء نظرة مؤسّسة متكاملة، إلى مستقبل العلاقات بين البلدين على «قاعدة منهجية مركبة من جانب واقعي وجانب منطقي وجانب غائي». وانطلاقاً من مفهوم المستوى التوجيهي، كمفهوم إجرائي، لبناء نظرته، اقترح تصوراً لهذه العلاقات على مستويات أربعة: 1) أمني، 2) براغماتي، 3) عقائدي، 4) نهضوي.

المستوى الأمني

تطرح قضية الأمن بين البلدين، بما هي حفاظ على استقلال كل منهما وسيادته على كافة الصعد، إلى معالجة مشتركة تنطلق من رؤية فلسفية متبصرة، تؤسس للإجراءات المطلوبة لتحقيق الخطة الأمنية. وهذا ما سمّاه نصار المستوى التوجيهي، الذي من شأنه تحقيق الأمن الخارجي. أما الأمن الداخلي، فهو مهمة خاصة بكل من الدولتين، ولا يمكن، انطلاقاً من مبدأ السيادة والاختصاص على أراضيها وفي مجتمعها، لسوريا أن تكون مسؤولة، بالمعنى الوظيفي، عن أمن لبنان الداخلي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لبنان، فلا يمكن أن يكون مسؤولاً عن الأمن الداخلي في سوريا. ومن الواضح أن هذه المقاربة، كانت تعالج آثار الوجود السوري المديد في لبنان، ولم يكن الجديد، في العلاقات اللبنانية السورية، قد ظهرت عناصره المادية، من حيث تحوّل لبنان إلى منصة تدخل سياسي وأمني في سوريا، مع أن أطروحة التدخل من أجل التغيير في سوريا، كانت مضمرة في خطاب ما يسمى ثورة الأرز، وامتدادها في خطاب قوى 14 آذار. وقد أتاح انفجار الأزمة السورية في ربيع 2011، لتلك القوى، المبادرة إلى الإفادة القصوى من موقع لبنان الجغرافي ـ السياسي، بالنسبة إلى سوريا، ومن موقعها السياسي والسلطوي والمذهبي الداخلي، إلى التدخل الصريح المتعدد الأشكال في سوريا بهدف إحداث انقلاب شامل في البلد الجار يصب في المصلحة السياسية الداخلية لقوى 14 آذار؛ فهذه الأخيرة ليست مجرد أداة للحلف المعادي لسوريا، وإنما وجدت في هذا الحلف وإمكاناته، فرصة لتحقيق مشروعها السياسي.
تعقيد قضية الأمن الخارجي في العلاقات بين البلدين، تعود أصوله إلى مرحلة التقسيم الاستعماري عام1920، الذي فرضه القنصل الفرنسي جورج بيكو والإنكليزي مارك سايكس على منطقة المشرق العربي، والذي يسميه نصار، بحيادية، مرحلة « نشوء دولة لبنان». وهو بهذا يتجاوز التسمية الحقيقية التي تكشف طبيعة الحدث، بوصفه انفصالاً.
فرض التحدي العدواني الإسرائيلي، على سوريا ولبنان، منذ 1948، طرح قضية الأمن الخارجي المشترك في مواجهة احتمالات العدوان الصهيوني في كل لحظة. وقد أصبح الموقف أكثر حراجة بعدما انخرطت الدول العربية، منفردة، في علاقات سلام الإذعان مع تل أبيب. من هنا، جاءت أطروحة وحدة المسارين في الربع الأخير من القرن الماضي، التي كانت قوى 14 آذار، تحاربها، باعتبارها أساس ما يسمى «الوصاية السورية» على لبنان. وهكذا، اصطدمنا بواقع أن قوى لبنانية أساسية تطيح أسس الأمن الخارجي المشترك، تحت شعار الاستقلال. ثم ذهبت تلك القوى أكثر من ذلك، إلى هدف تحطيم استقلال سوريا وسيادتها، كضمانة لاستقلال لبنان وسيادته. وهو ما يذكرنا بالموقف الكويتي من العراق.
عقدت دمشق وبيروت، «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» بتاريخ 22/5/ 1991 و«اتفاقية الدفاع والأمن» بتاريخ1/9/1991.
وتنظم المادة الثالثة من المعاهدة، أسس الشراكة الأمنية الثنائية انطلاقاً من أن «الترابط بين أمن البلدين يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان، وبالتالي لا يكون البلدان ممرّاً أو مستقرّاً لأيّ قوة أو دولة أو تنظيم» يستهدف المساس بأمن أي منهما. وكذلك المادة الثالثة من الاتفاقية، التي تؤكد أنّ الدولتين تلتزمان: «1) منع أي نشاط أو عمل أو تنظيم في كل المجالات العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية من شأنه إلحاق الأذى أو الإساءة للبلد الآخر، 2) أن يلتزم كل من الجانبين عدم تقديم ملجأ أو تسهيل مرور أو توفير حماية للأشخاص والمنظمات الذين يعملون ضدّ أمن الدولة الأخرى؛ وفي حال لجوئهم إليها يلتزم البلد الآخر القبض عليهم وتسليمهم إلى الجانب الثاني بناءً على طلبه».
من الصعب التوقف لمناقشة انتقادات نصار لهذا النصّ، إذ تبدو شكلية بالنظر إلى أن الأحداث أظهرت أن المعاهدات والاتفاقات بين البلدين، ليست، واقعياً، أكثر من حبر على ورق، ما لم يفرضها الجيش السوري أو ثورة داخلية في لبنان، تطيح القوى المحلية التي تحول دون تأسيس الحماية الأمنية بين البلدين على «قواعد راسخة من الوطنية اللبنانية والوطنية السورية».

المستوى البراغماتي

رأى نصار أن العلاقات اللبنانية السورية، التي تستند إلى «ثلاثة أركان: الميادين والمصالح والمعاهدات»، لا بدّ لها أن تنطلق من الفلسفة «البراغماتية» التي وضع مبادئها وقواعدها «فلاسفة أميركيون ثلاثة، شارلز بيرس، ووليم جيمس وجون ديوي»، والفكرة المركزية في هذه الفلسفة، هي أن المعنى والاعتقاد والعمل، تشكل موضوع التفكير الذي يوصل إلى الحقيقة، وأنّ معيار الأخيرة الحاسم هو النتائج العملية والسلوكية والمنفعة. من هنا، فإن علاقات التعاون بين البلدان، ترتكز على ثلاثة أسس: المرونة والانضباط والتقويم العام. وهذا الأخير هو، «في النهاية، تنفيذ المشروع وحساب الكلفة والأرباح والخسائر». وإذا كانت العلاقات بين سوريا ولبنان، المبنية وفق البراغماتية، تضع النجاح نصب الأعين، فلا بدّ من توافق شرطين رئيسيين، أولهما، قدرة السياسة اللبنانية والسورية على تجنب الانتهازية والارتهان لمزاجية الحكومات، وتهميش الأخلاق واختزال المنافع في الربح المالي، ثانيهما، قدرة كل من هاتين الإدارتين على «الجمع بين المرونة والعقلانية التطبيقية والانضباط الزمني والتقييم المستمر للعمل التعاوني في ما بينهما».
ولكن السؤال هنا كيف يمكن الانطلاق من المقاربة البراغماتية والأخذ بالاعتبار، في الوقت نفسه، أن خطط التعاون والتنمية الاقتصادية بين البلدين خاضعة للتجاذب السياسي «بين مؤيدين للاتجاهات الحاليّة للنظام الرأسمالي الحرّ القائم في لبنان وبين معارضين لها»، والأمر عينه ينطبق على سوريا؟
من أجل خلق عملية تنموية فعلية، هناك مهمة أساسية تكمن في بناء صناعة متقدمة قادرة على التصدير إلى الأسواق العالمية والمنافسة فيها، ولكن هذا الطموح يتطلب تغييرات في النظام الاقتصادي لكلا البلدين بحيث تستوي الأرضية اللازمة للتنمية المشتركة؛ ففي سوريا، بحسب نصار، هناك ضرورة لتقوية المنافسة الرأسمالية واعتماد أساليب السوق، وفي لبنان، لا بدّ من تقوية دور الدولة في حماية قطاع الزراعة والصناعة والحدّ من هيمنة التجارة الحرة والخدمات من أجل سياسة التصنيع؛ فالمطلوب، بالنتيجة، التوصل إلى نظامين اقتصاديين متشابهين في سوريا ولبنان، يأخذ كل منهما بما يراه نصار الأفضل لديهما، ويوحد تصورهما لعملية التنمية، ويزيل العراقيل الكبيرة أمامهما، ما يفضي إلى أن تعاوناً فعالاً يقود إلى التبادل الحر للسلع الوطنية، والاتحاد الجمركي، ومن ثم إلى السوق المشتركة. وهو ما يحتاج إلى ثلاثة شروط: أولاً، التشارك المتوازن بين الدولة وقوى السوق، وثانياً، استقلالية السلطة الوطنية في وجه الإملاءات الداخلية والخارجية، وثالثاً، توفر القدرة العلمية والإدارية لبناء خطط التنمية وتنفيذها.
بالعودة إلى الواقع، نلاحظ أن سوريا سارت، في النصف الثاني من العقد المنصرم، خطوات باتجاه اللبرلة الاقتصادية. وهو ما كان واحداً من الأسباب الرئيسية في انفجار الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي أفاد التحالف الإمبريالي الرجعي من نتائجها المتمثلة في تهميش الريف وإفقاره، والقدرة، تالياً، على تجنيد مناطق واسعة منه في التحشيد الطائفي الرجعي ضد الدولة الوطنية.
بالمقابل، ظلت الدولة في لبنان، رغم الضغوط الاجتماعية وتدهور الخدمات والصناعة والزراعة، غائبة عن أي تدخل اقتصادي ـ وهو ما يطرح مشكلة الاستعصاء اللبناني إزاء التغيير الوطني الاجتماعي؛ فهل يمكننا القول إن الاتحاد مع سوريا، أصبح لا مناص منه لمعالجة ذلك الاستعصاء؟

المستوى العقائدي

يؤكد نصار على أنّ من المستحيل إسقاط الاعتبارات العقائدية من منظومة العلاقات السورية اللبنانية، وذلك بسبب تداخل الأولى مع الثانية؛ فالعقائد، كخطاب ديني وأيديولوجي، تشكل الإطار الروحي والثقافي في البلدين. وهو الإطار الذي يسوغ، أو يرفض، على نحوٍ ما، هذه العلاقات، وبه يتحدد نجاحها أو فشلها. وتظهر، هنا، إشكالية التوفيق بين استقلالية الكيانين المعنيين، وانخراطهما في عملية تعاون وتوحيد؛ فأيديولوجية الدولة المستقلة، هي، في النهاية، تعبير عن هوية شعبها، وموجّهة لفاعليتها على صعيد الخطط التنموية، وتمتح من الذاكرة والخبرة التاريخية، وتؤسس لاختيار المنظومة التشريعية الدستورية، وتجسد خصائص المجتمع الحضارية، وتفرز صف الصديق عن العدو.
من هنا، يرى نصار أن مقولة أن «اللبنانيين والسوريين شعب واحد في دولتين، اختزال أيديولوجي معيق للتعاون». ومن هنا، أيضاً، يجيء اعتراضه على الأيديولوجية العروبية وعلى الحركة القومية في سوريا، بذريعة أن الانتماء «اختزال للهوية» سواء أكان في لبنان أم في سوريا، ذلك لأن الهوية تتحدد، كما يرى، «موضعياً» كما يقول الجغرافيون، و«بنيوياً» كما يقول علماء الاجتماع. وبذلك، فهو يعتقد بخواء التفسيرات العديدة للعروبة، كالتفسير البعثي، والناصري، والسعودي والقومي السوري.

مسالك التعاون

كيف تنفتح «مسالك التعاون» بين سوريا ولبنان؟ يجيب نصار عن هذا السؤال، انطلاقاً من رؤية ليبرالية علمانية تدعو إلى التحرر من «الطائفية» و«الدوغماوية»، الأمر الذي يقتضي ضرورة الاعتماد على فلسفة سياسية مؤسَّسة معرفياً، أي من طبيعة ابستيمولوجية، لممارسة نقد المعتقد، كمنظومة فكرية. وهذه المنظومة لا بد أن تنطلق من فكر «التنوير والحداثة» الأوروبي. وهكذا، تنبني عقلانية قادرة على مواجهة الحركات الأصولية الدينية، وتسمح بتغيير المشهد العقائدي في سوريا ولبنان، للانتقال إلى فضاء مفتوح، يقوم على حوامل ثلاث: «الوطنية والديموقراطية والعلمانية».
يؤكد نصار أولوية تحقيق المهمات ذات الطابع الليبرالي في البلدين، (1)، لأن لبنان، إذ يتمسك بالديموقراطية الليبرالية، لا يزال مقيداً بالديموقراطية التوافقية بين الطوائف، وإذ ينادي بالعلمانية من أجل تمتين الوحدة الوطنية، تنتصب الطائفية أمامه كقوة مهددة بتمزيقه، (2) ولأن سوريا التي عرفت بوجود مركزية قوية منذ زمن طويل، وبوحدة وطنية متينة، لم تكرّس، بعد، بصورة حاسمة، العلمانية أساساً للحكم، ولم تصن الحريات العامة بالشكل المطلوب. ولكن من هي القوى التي تستطيع إنجاز هذه المهمات؟
ألم تثبت الوقائع أن القوى الليبرالية في سوريا ولبنان، أظهرت، بوضوح، أن ليبراليتها مجرد نيوليبرالية اقتصادية لا غير؟ وأنها لم تستطع الاستقلال، في حركتها السياسية الفعلية، عن نهج التحشيد الطائفي والمذهبي، والالتحاق بالإسلام السياسي، والانخراط في جبهة ظلامية مع الإخوان المسلمين وحتى التكفيريين، كما رأيناه يحدث بالنسبة إلى الشخصيات والتيارات الليبرالية في البلدين.

تراجيديا الوطنية السورية

من المشكلات الكبرى، ذات الأبعاد الجيوبوليتيكية، التي تعترض، عند نصار، العلاقة بين البلدين، أن «الوطنية السورية تحمل في أعماقها شعوراً تراجيديا بأنها وطنية مُعتدى عليها...». ويقترح نصار معالجة تراجيديا الوطنية السورية، نفسياً، بتحويل هذا الشعور إلى قوة إيجابية من شأنها تحديث أنظمة سوريا ومؤسساتها.
أما الوطنية اللبنانية، فهي تواجه، عند نصار، مشكلة الطائفية، ما يجعل لزاماً على الدولة أن تبسط سيطرتها التدخلية.
يشدّد نصار على أولوية الدولة الوطنية، وعلى المواطن الذي هو جوهرها، وتجلي الوطنية الحقيقية التامة، في دولة ديموقراطية، دولة شعب أفراده متساوون في الكرامة والانتماء الوطني ـ اللذين يضمنهما مبدأ العقل والحرية ـ. ومن المناسب، هنا، التذكير بالتمييز الذي يقيمه نصار بين الديموقراطية «بمعناها الإجرائي» التي تختص بالترشيح والانتخابات، والديموقراطية بمعناها الجوهري، وهي التي تختص بالحقوق الأساسية ومبادئ الحريات العامة والمصالح المشتركة، وبالمناقشة بمشكلات الدولة.

المستوى النهضوي الحضاري

النهضة العربية المطلوبة الآن، كما يرى نصار، تفترض تجاوز النهضة العربية الأولى باتجاه البديل، وهو «التقدم الحضاري». وإذا كانت النهضة الثانية تطرح ستة أهداف (الوحدة العربية، الديموقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، الاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري)، فهي، أيضاً، تحتاج إلى تجاوز اعتبار العرب «أمة واحدة». ومن شأن هذا التجديد أن يمهد لعلاقات راسخة بين سوريا ولبنان تقوم على طموح كبير يشتركان فيه ويسمح بضرورة تحديد القيم الأساسية في ضوء استحقاقات العولمة؛ فالعولمة، عند نصار، هي التي تصنع الحضارة في الحقبة التاريخية الراهنة. ذلك أن «حضارة العولمة هي حضارة الحرية» وقيمة الحرية التي لها موقعها في الخزين الثقافي لبلاد الشام، تهيئ لحل قضية الحريات العامة، وتداخلها مع مشكلة الطوائف في لبنان وقضية الاستبداد بالحكم في سوريا.
بعد انسحاب القوات السورية من لبنان وصمود المقاومة في حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، عاد السؤال القديم عن كيفية «التقدم من أجل مستقبل أفضل للشعبين اللبناني والسوري، في إطار عروبة متجددة وعولمة متصاعدة؟». ويجيب نصار عن هذا السؤال بقوله إن أيّ «تفكير مستقبلي في الحرية لا يستقيم حقاً من دون تموقع في رحاب الليبرالية واستثمارها ونقدها». (هنا، من والواضح أن الباحث يتبع الباحث يورغن هابرماس، الذي يقول بأن الحداثة لم تستنفد إمكاناتها، بعد). وهذا يؤدي بحسب نصار، إلى ضرورة الانطلاق من «العدل» بمفهومه الليبرالي الجديد، الذي لا يضمنه الخطاب الديني، بل العقل الذي هو حصيلة الفلسفة الوضعانية التي تقوم على الدور المركزي للعلوم والتكنولوجيا. المطلوب في سوريا ولبنان، وللبلدان العربية من أجل «تقدمها الحضاري».

ملاحظات
1ـــ لم يميّز نصار بين الليبرالية التي أدت دوراً تقدمياً، لحظة صعودها في التاريخ، ودورها السلبي اللاحق، بعد دخولها المرحلة الإمبريالية، في ظل نشوء اتحادات الرأسماليين الاحتكارية وتقسيم الأسواق عبر الكارتلات والسنديكات والتروستات، واختراق رأس المال للحدود القومية في العالم.
2ـــ لم يتوقف لنقد الهيمنة الأيديولوجية الغربية، بل هو يتوافق معها، داعياً السوريين واللبنانيين، إلى اعتناقها.
3ـــ غاب التحليل الاجتماعي ـ السياسي، لمصلحة سيطرة المقاربة التقنية.
4ــ اعتمد مفهوم «العقلانية والحداثة»، من دون أن يورد تسويغاً فلسفياً لهذا الاعتماد، سوى الإشارة العابرة، بأن الحداثة لم تستنفد مهمتها تاريخياً، وهذه الفكرة تعود، أصلاً، إلى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وقد شكك بها النقد الفلسفي المعاصر. 5ـــ توكيد نصار أفضلية الرأسمالية الليبرالية والحاجة إليها في سوريا ولبنان، هو مجرد توكيد ايديولوجي مطروح بوصفه حقيقة خارج النقد والنقاش، ومن دون تأصيل نظنه غير ممكن، بالنظر إلى الفشل الشامل للنموذج الاقتصادي الليبرالي على النطاق العالمي.
6ـــ لم يتوقف نصار، نهائياً، عند الصراع السياسي بين القوى «الليبرالية» التي كشفت عن وجهها الرجعي الطائفي في لبنان، وقوى المقاومة، وفي مقدمتها حزب الله، ولم يكتشف، بالتالي، ما كان ممكناً قراءته من هشاشة خطاب استقلال الدولتين (إزاء بعضهما بعضاً)، وسقوطه، سياسياً، عند كل مرحلة من تجدد الأزمة.
* كاتب وناشط يساري ــ سوريا

هوامش
* الإحالات إلى ناصيف نصّار، حول فلسفة العلاقات اللبنانية السورية، منشور في كتابه «الإشارات والمسالك»، دار الطليعة، بيروت، كانون الثاني، 2011، ص 209 ـ 246.