كليشيهات التطورات العربية، وبخاصة التطورات السورية، لا تزال تهيمن على المشهد العام، وعلى قناعات من يلاحق بشغف الأحداث بأبعادها المختلفة. ومن هذه الكليشيهات عنوان «التقسيم»، و«الفدرلة»، وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية.
ليست فكرة التقسيم جديدة في مراحل التاريخ المختلفة، ذلك أن القوى الكبرى والفاعلة التي تستطيع السيطرة في مرحلة معينة، ترسم الجغرافيا في بقع سيطرتها وفق ما تراه متوازياً مع مصلحتها. وأحياناً ترتسم الخرائط الجيوسياسية بطريقة موضوعية، وتكون نتاجاً لما تحقق على الأرض من سيطرة، فتقف كل قوة عند الحدود التي تمكنت من الوصول إليها.
بنتيجة الحرب العالمية الأولى، انتصر محور الحلفاء وفيه فرنسا وانكلترا، على محور المركز وفيه ألمانيا والنمسا، من دون إغفال وجود دول فاعلة أخرى في المحورين. مع بداية الحرب، لم يكن معروفاً ما الذي ستفرزه على صعيد خريطة العالم. لكن نتيجة الصراع، وانتصار الحلفاء أدى إلى أن تفرض قوى هذا التحالف نظرتها للعالم، فأعيد تقسيم أوروبا إلى دول حديثة، وزالت امبراطوريات المانيا وروسيا والنمسا، وتقسيم الشرق، ترِكة الامبراطورية العثمانية، إلى دول ما بعد اتفاقية سايكس-بيكو.
يمكن للمجتهدين في رسم الخرائط وضع أقلام تقسيمهم جانباً

وفي الحرب العالمية الثانية، كان خط برلين هو الحد الذي توقفت عنده القوى الكبرى المتصارعة للسيطرة على العالم الحديث، بصيغتيه الرأسمالية والشيوعية. هتلر، الذي امتلك القرار في مشروع الحروب، لم يضع في حسبانه هذا الخط. كان حلمه التوسع والسيطرة على أوروبا، بينما كانت تنافسه قوى كبرى أساسها فرنسا وبريطانيا.
آلية الصراع وتطوراته والدور الفاعل الذي لعبه ستالين، أفرزت خريطة غير مخطط لها مسبقاً، وكانت تعبيراً عما آلت إليه موازين القوى. انقسمت أوروبا بالمحصلة إلى محورين، أوروبا الشرقية واوروبا الغربية، بالإضافة إلى تقسيم ألمانيا، وعاصمتها برلين وفق اتفاقية يالطا، وأيضاً ترسيم حدود الدول الأوروبية وفق ما آلت إليه موازين القوى، ومعايير الصراع غابت ألمانيا عن الاتفاق لأنها هزمت، رغم انها كانت تملك أكثر المشاريع المفجرة للحرب العالمية بما ملكه هتلر من نزعة هيمنة وتوسع.
أوضح نموذجين عن صيغة «المنتصر يحدد» تقدمهما الحربان العالميتان، ويستقر التقسيم العالمي بموازين القوى الجديد الذي انضبط في ما عرف بالحرب الباردة، بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الاتحاد السوفياتي، وهي موازين قوى متكافئة جمدت عمليات التقسيم، وفرضت عالماً بتقسيمات دولية هو المعروف لدينا حتى اليوم، تقريباً، ما خلا استثناءات قليلة غير مؤثرة.

التقسيم الحديث للشرق الأوسط

انفرط توازن الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي، وسيطرت القوة العظمى الوحيدة الولايات المتحدة الأميركية على العالم. مآل صراع استمر أكثر من نصف قرن أفرز حالة فريدة في عالم واحد، راحت الولايات المتحدة تسرح وتمرح فيه وفق مصالحها، ووضعت مشاريع تقسيم للشرق الأوسط، لكنها استندت أساساً على العناصر المذهبية والعرقية، وأوفدت وزيرة الخارجية الأميركية غوندوليزا رايس إلى الشرق حاملة تصورات مشاريع التقسيم، وكانت الحرب العراقية الأولى ممهدة الطريق لمشاريع رايس. حتى إذا جاءت الحرب العراقية الثانية، ووضع الهجوم على العراق أوزاره، ارتسمت بعض معالم خريطة رايس في العراق: دول مذهبية على قواعد شيعية وسنية، وعرقية- كردية، دون أن تتخذ هذه التقسيمات صيغة شرعية محلية كانت أم دولية، ولم يعلن عنها بأي طريقة من الطرق.
كثيرون استسلموا إلى تقسيم العراق، ورأوا أن الشعار الذي أطلقته سيدة العالم بالتقسيم هو مفهوم منزل، والنطق بخلافه بات «الكفر» بعينه، وذلك بنظر أتباع الولايات المتحدة... وفي الوقت نفسه، بنظر كثيرين من مدعي معاداتها، لتنطلق بعد ذلك مخيلة هؤلاء وأولئك عند اندلاع الأحداث السورية.
سوريا دولة مقسمة، هكذا أرادتها واشنطن من ضمن المشاريع التي جاءت مع حملة رايس. تلقف الكل مقولة «السيد الأميركي» ونشطوا في تظهير معالم خطوط خرائطه بكل الاتجاهات والاحتمالات. اتخذوا من سيطرة القوى المسلحة على الأرض مبرراً لرسومهم وخطوطهم، وكأن خطوط الصراع، الذي لم ينته حتى اليوم، رغم التطورات الدراماتيكية الواضحة ورجحان ميزان القوى بشكل قاطع لم تعد معه إمكانية العودة إلى الوراء قائمة، باتت خطوطاً نهائية للتقسيم في سوريا، على غرار التقسيم الذي وقع في العراق.
اعتمد المجتهدون في طرح الرؤى المختلفة، لا على قوانين الصراع التاريخية، بل على ما أطلقه لهم «السيد» غير المردود الكلمة، وكأن «السيد» لا زال كما كان في عز قوته وتفرده بالعالم إثر سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات. ورغم اختلال ميزان القوى في الآونة الأخيرة بشكل كامل بين محوري الصراع في سوريا، الشرقي والغربي، ووجود مشروع الحفاظ على سوريا موحدة في المحور الشرقي، إلا أن الكثر من المجتهدين من ابناء المحورين لا يزالون متمسكين بجمود العقل، والتوقف عند مقولة «السيد»، غير آبهين بما وصل إليه ميزان القوى من اختلال، ولا بما وصل إليه حال «السيد» من عجز ومأزق.
تعترف الولايات المتحدة بسقوط مشروع رايس التقسيمي، وبعجزه عن تحقيق مبتغاه السابق في الشرق الأوسط، لكن مجتهدينا لا يعترفون.
بنتيجة ما وصل إليه ميزان القوى في سوريا، يبرز موقف واضح من التقسيم، للمتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي. أعلن فيه، في الفترة الأخيرة، ما مفاده أن «ما نريده هو سوريا موحدة بكاملها... سوريا كاملة موحدة غير طائفية... هذا هو الهدف».
وما بين آحادية السيطرة الأميركية على العالم وطرح مشروع رايس التقسيمي، وانقلاب ميزان القوى العسكري-الميداني في سوريا وإعلان كيربي، يمكن للمجتهدين في التقسيم ورسم الخرائط، وضع أقلام تقسيمهم جانباً، والأجدر بهم استخدام أقلام تعيد رسم خريطة المنطقة على منهج توحيدها، وتجاوز تقسيماتها السيئة منذ اتفاقية سايكس-بيكو، فقد بات ميزان القوى صالحاً لهذا المشروع، وليس إلى المشاريع التقسيمية التي باتت من الماضي.
* كاتب لبناني