عندما يتفق شيوعيون وسوريون قوميون اجتماعيون، وبعثيون وناصريون، وليبراليون في «إعلان بيروت من أجل انتصار الجمهورية العربية السورية»، الصادر عن «اللقاء المشرقي دفاعاً عن سوريا»، على رفض كل «أشكال التدخل الإمبريالي» ضد سوريا، ويدعو أقطار وجماهير المشرق العربي إلى «رفض كل أشكال التدخل العدواني في سوريا والتحريض السياسي والطائفي والمذهبي والإثني، الهادفة إلى تمزيق المجتمع السوري وإطالة أمد الحرب العدوانية»، فإن ثمة روحاً جديدة تدب في أوصال السوريين واللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين والعراقيين، وتنظم شتات أفكارهم ومواقفهم وانفعالاتهم، في مواجهة الحلف الإمبريالي ــ الصهيوني ــ الرجعي العربي؛ ودفاعاً عن الاستقلال الوطني والعلمانية ووحدة مصير بلاد الشام وأرض الرافدين، ضمن إطارها العربي الأوسع.
وعندما يتوجه اللقاء بنداء حار إلى القوى الوطنية في النظام والمعارضة إلى التنبه «إلى خطورة الأزمة الداخلية وضرورة التركيز على عقد مؤتمر حوار وطني شامل... للانخراط في تأسيس جبهة وطنية موحدة، تقوم على أساس المشاركة الندِّية والتعاون الديموقراطي، من أجل إنقاذ الوطن... والتنمية لصالح الكادحين والمنتجين، الذين يشكلون القاعدة الاجتماعية للمقاومة...»، يحدد اللقاء البوصلة، بأن لا دور لمن وضعوا أنفسهم في خدمة التدخلات الإمبريالية والرجعية، بشتى أشكالها، في إعادة بناء سوريا الجديدة، وبأن إعادة الإعمار هذه لا يجوز أن تكون إلا لصالح الكادحين والمنتجين... والمقاومة. وليس من أجل من راهنوا على «الأطلسي» والدائرين في فلكه، من عثمانيين جدد ورجعية عربية، والمرتزقة الذين لا ناموس لديهم سوى الذبح على الهوية؛ وكذلك ليس لصالح من أسهموا في تدمير النسيج الاجتماعي السوري بمشاريع اقتصاد السوق وروجوا لليبرالية الجديدة، وهمَّشوا ملايين السوريين، وبخاصة في الأرياف، وخلقوا الأساس المادي لتجنيد من فقدوا مصادر عيشهم من قبل أشد القوى رجعية وعداء لسوريا، كي تنتفخ جيوب وكلاء الرأسمال الأجنبي من الكمبرادور، وسماسرة السياسة والاقتصاد، والمنتفعين من الدولة
الأمنية.
وعندما يدعم اللقاء قرار الدولة السورية في «إطلاق المقاومة الشعبية لتحرير الجولان المحتل»، ويدعو «كل القوى الوطنية التقدمية السورية إلى المشاركة في إطلاق وتنظيم حركة المقاومة السورية»، ويؤكد على «مشاركة القوميين واليساريين من أقطار المشرق العربي والوطن العربي» عامة في دعم وإسناد هذه المقاومة، فإن ثمة خارطة طريق لحركة التحرر المشرقية والعربية كي لا تبقى المقاومة مجرد شعار يرفع في المناسبات، ولتكتفي الجماهير بتحية المقاومين الأبطال والاعتزاز بهم دون أن تشارك فعلياً في المقاومة. إن قرار إطلاق المقاومة الشعبية لتحرير الجولان يشكل رداً مباشراً على من ظلوا يتهمون الدولة السورية، رياء، بسد السبل في وجه مقاومة الاحتلال انطلاقاً من الأراضي السورية، ويفتح الأبواب أمام جميع القوى المناضلة، من سوريين وفلسطينيين ولبنانيين وأردنيين وعراقيين، ومن شتى الأقطار العربية، لتوسعة نطاق المقاومة كي تشمل ساحات جديدة. ومن المؤكد أنّ هذا لن يكون نزهة أو بالأمر السهل، خاصة بالنسبة لمن يخضعون لسطوة أنظمة ارتبطت عضوياً بالجغرافيا السياسية للإمبريالية، وانحازت بصورة أو بأخرى لمعسكر العدوان على سوريا. ولكنه يخلق في الوقت نفسه محفزاً جديداً لخروج الجماهير العربية من حيز الصراعات الطائفية والمذهبية والجهوية الغريزية التي تحاول الرجعية العربية، ومن ورائها الإمبريالية، تأجيجها، نحو الصراع الحقيقي الذي ينظم الجماهير الكادحة وقواها الاجتماعية ــ السياسية المناضلة في وجه المؤامرات الإمبريالية ــ الصهيونية ــ الرجعية.
وبهذا يضعها في سياق مشروع التحرر الوطني الاجتماعي الوحدوي الذي تسعى القوى المعادية إلى الحيلولة دون تبلوره وانتصاره، في مواجهة مشروع التقسيم وإعادة التقسيم والتبعية ونهب الثروات، وهندسة شرق أوسط جديد مركزه «إسرائيل» تتبعه محميات مجزأة يحكمها وكلاء للإمبريالية، ويتبادلون فيها الأدوار في ما بينهم خدمة لمصالحهم الطبقية المشتركة. بينما تنشغل الأغلبية الساحقة بصراعاتها الصغيرة، وتتسابق لنيل بعض الفتات حتى لو كان ثمن ذلك الذبح على الهوية.
قد يرى البعض أن «إعلان بيروت» ليس سوى صرخة في واد، ومجرد شعار يرفع في الوقت الضائع دونه جبال ومصالح ضخمة. ونقول: نعم، ثمة مصالح هائلة سيدافع عنها أتباع الإمبريالية ومن يشعرون بأن لا مصلحة لهم خارج هذه التبعية والتفاهم مع العدو الصهيوني. كما أن هناك سنوات طوالاً من تجريف الوعي وتبديد النسيج الاجتماعي اللذين دأبت الإمبريالية والرجعية على إعادة إنتاجهما، كي تظل شعوبنا العربية أسيرة الخوف من التغيير وحبيسة عصبياتها الضيقة. لكن ما تواجهه أنظمة التبعية في بلداننا الشامية خاصة، والعربية عامة، وما تعانيه شعوبنا من قهر ونهب وامتهان لكرامتها تجعلها اليوم تنزع عنها نير الامتثال لإرادة الحكام، وتبحث عن حلول حقيقية، لا لمشكلاتها الاجتماعية فحسب، وإنما لشعورها بالمهانة الوطنية جراء استباحة الاستعمار الجديد ووكلائه لمقدراتها؛ وجراء غطرسة العدو الصهيوني، الذي يحاول، مع حلفائه من العرب، إدامة حالة الاستلاب والخضوع، والإبقاء على اتفاقيات الذل التي عقدها معهم في غفلة من الشعوب.
إن ثمة روحاً جديدة تدب في أوصال شعوبنا المشرقية العربية، وفي مختلف أقطار وطننا العربي. روح تشق طريقها نحو الاستقلال الوطني الناجز وإنهاء التبعية وتحرير الأراضي المحتلة، بعدما بينت لها المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية، بالمثال الحي، أن ذلك ممكن، وأن الشعوب عندما تملك إرادتها تستطيع بعزمها وعملها أن تعيد صياغة التاريخ، وأن تملك مصيرها، وأن تنجز وحدتها التي طالما حلمت بها، وأن تبني مجتمعها الذي يليق بها.