إن نصب بطاريات صواريخ الباتريوت بعد أشهر من بدء عمل الدرع الصاروخية في ملاطيا التركية (تمت الموافقة على عملها مطلع أيلول2011، على أن يبدأ العمل بها مطلع 2012)، والحديث المتواتر الآن عن إبقاء بطاريات الصواريخ في الأردن، ليس أمراً متعلقاً بما يجري في سوريا بهدف إسقاط النظام السوري فحسب، رغم التشابك الوثيق بين الأمرين، بل يكاد يكون إسقاط نظام دمشق الذريعة لنصب هذه الصواريخ من جهة، والهدف الجزئي لها من جهة أخرى، تمهيداً لأهداف أخرى استراتيجية، وهو ما عبّر عنه بوضوح السفير التركي السابق في واشنطن والنائب الحالي في البرلمان «فاروق لوغ أوغلو» بقوله إن «الباتريوت هي للدفاع عن الدول الصديقة، وإسرائيل من بين هذه الدول. صحيح أنها ستدافع ضد سوريا، لكن الهدف الأصلي حماية إسرائيل؟». وهو ما يؤكده أيضاً الكاتب التركي يالتشين دوغان بالقول: «صواريخ الباتريوت تأتي لحماية رادارات الدرع الصاروخية في ملاطيا، وهي في الأساس نصبت لحماية أمن إسرائيل التي نعلن دائماً أنها عدونا».لا يمكن فهم الأمر دون قراءة تطور العولمة الاقتصادية وسعيها الحثيث لتجاوز أزماتها المالية المتتالية من طريق العودة إلى العسكرة و«الحروب الوقائية» وإقامة القواعد في العالم لحماية الاحتكارات العالمية ومصادر النفط والطاقة، «فللاحتفاظ بوضعها كبلدان متمتعة بالرفاهية، تضطر بلدان الثالوث الإمبريالي (أميركا، أوروبا واليابان)، إلى الاستحواذ على الموارد الطبيعية للعالم وحدها. ولتحقيق هذا الهدف تكتسب العولمة الإمبريالية طابعها العسكري»، كما يقول سمير أمين.
ويأخذ الأمر صيغة حجج كثيرة على رأسها نشر الديموقراطية وإسقاط الأنظمة المستبدة وإقرار حقوق الأقليات الدينية والعرقية ومكافحة الإرهاب وخطر الأسلحة الكيمائية.
ضمن هذه الرؤية تأخذ العسكرة دورها كأحد أدوات الحفاظ على هذه المصالح، حيث احتفظ حلف الأطلسي لنفسه بحق التنفيذ العسكري، ولأن أنقرة هي أحد أطراف هذا الحلف، فإن الأمر يأتي لحصار إيران وروسيا وتحقيق أمن إسرائيل، فضلاً عن تنفيذ المهمة في سوريا، لكونها لا تزال تحتفظ بنسبة استقلال ما في القرار عن المركز الرأسمالي الذي من أحد أهدافه الأخيرة تفكيك الدول التي لم تنخرط في المنظومة الاقتصادية العالمية بعد، وما زالت سلطاتها المستبدة وغير الديموقراطية تحتفظ باستقلال نسبي في اتخاذ قراراتها، ولعلّ تأمل حالات دول مثل العراق، ليبيا، سوريا، يوغسلافيا...، من هذه الجهة يعطينا فرصة للمقارنة، وهي دول ذات حكم شمولي استبدادي، ما يسهل مهمة واشنطن في استهداف هذه الدول التي مهدت سلطاتها الأرضية اللازمة لمثل تلك التدخلات، برفضها القيام بإصلاحات ديموقراطية حين كان الوقت متاحاً.
لفهم هذا الأمر بنحو أوضح: بعد الأزمة المالية التي تعصف بالاقتصاد العالمي منذ عام 2008، وبعد احتجاجات «وول ستريت» التي تُعَدّ إنذاراً من الداخل الأميركي هذه المرة، أدركت واشنطن الخطر المحدق، فأعلنت في عام 2011 استراتيجيتها الجديدة المتمثلة بالاتجاه نحو منطقة المحيط الهادي لفتح أسواق جديدة للاقتصاد الأميركي من جهة، ولمواجهة القوى الصاعدة اقتصادياً واحتوائها من جهة أخرى. اللافت في الأمر أن أولى الخطوات التي تسعى إليها واشنطن ضمن هذه الاستراتيجية السعي لإقامة قواعد عسكرية في أوستراليا، حيث كان هذا أهم البنود المدرجة على برنامج عمل زيارة أوباما الأخيرة لأوستراليا (16 كانون الأول 2011)، إذ قال نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، بن رودس: «الوجود الأميركي مهم لاستمرار التنمية السلمية بالمنطقة ومواصلة التدفق الحر للتجارة، واستمرار القدرة على التعامل مع أنماط من التحديات قد تنبثق من هذا الجزء بالعالم»، الأمر الذي يربط بوضوح بين التوسع العولمي الجديد للثالوث النيوليبرالي الاقتصادي (بلغة أمين) وبين العسكرة التي أضحت إحدى وسائل الحفاظ على هذا التفوق في الاستحواذ على ثروات العالم.
ضمن هذا السياق، فإن الباتريوت الذي نصب أخيراً على الأراضي التركية، يأتي لإطاحة النظام السوري من جهة وتمهيد الأرضية اللازمة لاستهداف طهران وروسيا وأية حكومة سورية مقبلة، لضمان تدفق النفط والطاقة (خاصة الغاز الجديد والمكتشف وخطوط نقله) والسيطرة السياسية على الإقليم عبر أدوات الحكم التابعة التي تسوّق لها واشنطن في المنطقة، بدءاً من الإخوان وليس انتهاءً بالائتلاف في الحالة السورية، بمقابل هيئة التنسيق السورية التي تسوّق لها روسيا وإيران أيضاً لحماية مصالحهما، على حساب الديموقراطية السورية المغدورة التي لا تريدها أي من هذه الدول الفاعلة على الساحة السورية. فواشنطن تختصر الديموقراطية ببعدها الاقتصادي الذي يعني فتح الأسواق والسماح للاحتكارات المحلية، التي تعمل أداةً للاحتكارات العالمية بالسيطرة على كل شيء اقتصادياً وسياسياً، وببعدها السياسي المبتذل الذي يعني أحزاباً متعددة وانتخابات شكلية، دون السماح بتجذير ديموقراطية اجتماعية/سياسية نابعة من المجتمع، أي ديموقراطية من فوق بدلاً من ديموقراطية من تحت؛ لأن الديموقراطية هي الابنة الشرعية للرأسمالية الوطنية في الغرب التي أرست نظام إنتاج وصناعة ومدينة واندماج اجتماعي، وليست مجرد انتخابات تفرض من فوق عبر حياة سياسية شكلية تتحكم بها رؤوس الأموال، أي إنها نتاج تمخضات اقتصادية وسياسية واجتماعية وحركة نقابات فاعلة بوجه الاحتكارات للحفاظ على حقوق العمال والطبقات الدنيا المهمشة التي ثارت لأجل «الكرامة والحرية ولقمة الخبز»، أي لا تنتج الديموقراطية دون ثقافة ديموقراطية تتجاوز الانتماءات ما دون الإثنية/الطائفية باتجاه اندماج وطني. هنا تُختزل الديموقراطية إلى بعدها السياسي الهش المختزل بانتخابات وحماية «حقوق الأقليات»؛ لأنه يسهل التدخل ويمنع نمو الاجتماع الداخلي باتجاه اندماج وطني فعّال، مرفقاً باقتصاد السوق، بدلاً من ديموقراطية ذات بعد اقتصادي (إنتاجي) اجتماعي/اشتراكي يراعي مصالح الطبقات المفقرة صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إيران وروسيا اللتين تريدان أنظمة تابعة تضمن مصالحهما في المنطقة.
ولهذا السبب يغدو إدراج «جبهة النصرة» على قائمة الإرهاب من جهة، ودعمها وتسهيل دخولها الأراضي السورية من طريق قطر وتركيا والسعودية التابعتين لواشنطن من جهة أخرى، وبتواطؤ ضمني من النظام السوري الذي يقدم نفسه أداةً فاعلة في مواجهة الإرهاب، هو سياسة جديدة بهدف رفع لواء «مكافحة الإرهاب» في وجه أي حكومة مستقبلية أو سلطة مقبلة، ولمواجهة التيارات السياسية الصاعدة، عبر توقيع اتفاقات أمنية مع الحكومة الجديدة، تحقق الالتحاق الكامل بالمنظومة الأمنية الاحتكارية العالمية، ليتقدم شعار «مكافحة الإرهاب» على شعار الدولة المدنية الديموقراطية العلمانية، وربما على إسقاط النظام أيضاً، حيث إن التحولات الأميركية بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا باتت واضحة في هذا السياق.
ولكن هل يعني ما سبق، أن النظام السوري يقاوم «المؤامرة الكونية» كما يقدم نفسه؟ وهل يعني هذا رفض إسقاط النظام السوري أو تفكيكه بمواجهة المشروع السابق؟
قطعاً لا، لأن النظام السوري رغم مواجهته للاستراتيجية الأميركية طوال عقود سابقة، بحيث شكلت سياسته حائط صدّ بوجه الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة بالتعاون مع إيران وحزب الله والفصائل الفلسطينية المقاومة دون أن تكون مواجهة مباشرة بنفس الوقت حيث احتفظ النظام السوري بعلاقات أمنية في مجال مكافحة الإرهاب واتفاقات غير معلنة من تحت الطاولة في لبنان وشارك في حرب الخليج. لكن رغم ذلك، كان النظام السوري يحقق أجندة واشنطن والغرب الأخرى كلها من حيث تهيئته الأرضية اللازمة للتدخل الخارجي الذي نشهده الآن في الأرض السورية، فامتناعه عن التحول باتجاه الديموقراطية وإبقاء القبضة الأمنية الفاشية فوق رؤوس المواطنين لتذلهم واتباع وصفات اقتصاد السوق الاجتماعي (واللااجتماعي في جوهره) كما سوقت له السلطة، الذي أدى إلى إفقار الطبقات الدنيا والشريحة الأدنى من الطبقة الوسطى لتهبط إلى القاع، أدى إلى حصول الانفجار الذي كانت تتوقعه واشنطن وتدفع النظام إليه، وتنتظره كما هي تنتظر الآن الانفجار الإيراني والكوري الشمالي، وكذلك الخليجي من الداخل، إن لم تستفد تلك السلطات من الدروس التي تحصل أمامها، علماً بأنّ التجارب أثبتت أن هذه الأنظمة غير قابلة للإصلاح من داخلها، ولعل النظام السوري الذي كانت معارضته الداخلية تطالبه بأن يفتح «الدائرة من الداخل قبل أن يفتحها الأغيار»، كما قال المفكر الطيب تيزيني في بيان كتبه بعد سقوط بغداد عام 2003، دليل حي على ذلك. إذن، نحن أمام نظام لم يعد يشكل أية أرضية لبناء الوطنية السورية، وخاصة بعد أن أدت وصفاته الأمنية/العسكرية إلى تدمير الداخل، تساعده في ذلك معارضة خارجية (مجلس وائتلاف) تستجلب كل أنواع التدخلات العسكرية، وهي رهينة تلك الأجندة السابقة، الأمر الذي جعل الخيارات السورية المتاحة ضيقة جداً ومحدودة، تتمثل في تقوية التيار الوطني الداخلي المعارض الرافض لأشكال التدخلات من جهة، وللنظام من جهة ثانية، مع ضرورة التحلي ببراغماتية سياسية قادرة على استغلال الفراغات التي تنشأ بين القوى الكبرى جراء الصراع على سوريا، أي استغلال الخارج في معركة الداخل لمصلحتها، وهو أمر يبدو ضعيفاً جداً الآن، ولكن ينبغي التأسيس له والعمل منذ الآن باتجاهه لمحاولة بناء شيء في المستقبل بدلاً من الركون لليأس، وفق قول غرامشي الشهير «تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة»، عبر إسقاط النظام المستبد بدلالة بناء الدولة الوطنية العلمانية الديموقراطية، وليس مجرد التركيز على شعار الإسقاط الهش أو رحيل بعض الأشخاص كما هو قائم حالياً، عبر وضع استراتيجية تسمح ببناء ديموقراطية من تحت بدلاً من تلك التي ستفرضها الدول الساعية إلى تقويض سوريا وإلحاقها بمنظومتها كسوق تابع.
* شاعر وكاتب سوري