بحثاً عن وظيفة في لبنان

أصدر مكتب البنك الدولي في بيروت أخيراً تقريراً خلص فيه إلى أن لبنان يحتاج إلى زيادة عدد الوظائف المتاحة وتحسين نوعيتها. وكان في التقرير قياسٌ للمشكلة المطروحة حالياً، ولا بدّ من تلخيص أهم الخلاصات التي توصل إليها:

في المقام الأول، أشار التقرير إلى رصيد الاقتصاد اللبناني القاتم في استحداث الوظائف. صحيح أن إجمالي الناتج المحلي سجّل نمواً بنسبة 3.7% سنوياً بين عامي 1997 و2009، لكن لم يستحدث الاقتصاد اللبناني سوى 1.1% من الوظائف الجديدة، ما يُعدّ خارجاً عن المألوف في بلد متوسط الدخل. فعلى الاقتصاد أن يزيد عدد الوظائف الجديدة بستة أضعاف لامتصاص المتخرّجين الجدد إن كانوا سيبقون في لبنان، أي في السنوات العشر المقبلة، على الاقتصاد أن يولّد 23 ألف وظيفة جديدة سنوياً. وحتى الآن لم ينجح في استحداث سوى 3 آلاف وظيفة.
ثانياً، لا نحتاج إلى المزيد من الوظائف فحسب، بل نحتاج إلى وظائف أفضل. تكشف الدراسة أن الوظائف التي يطلبها القطاع الخاص هي وظائف متدنية الإنتاجية على غرار تجارة الجملة والمفرّق، وتصليح السيارات، والنقل والتخزين، فيما تتراجع الوظائف في قطاعات عالية الانتاجية كتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات المالية والتأمين والوظائف العلمية الأخرى.
ثالثاً، تبدو آمال إيجاد وظائف آمالاً ضئيلة بالنسبة إلى المتخرجين الشباب. في الواقع، تشير الدراسة إلى أن فترة الانتقال من المدرسة إلى سوق العمل هي فترة طويلة، إذ يحتاج الباحثون عن العمل للمرة الأولى من غير الملتحقين بتعليم نظامي فترة 16 شهراً للحصول على وظيفتهم الأولى، إضافة إلى ذلك، يلجأ 85% من اللبنانيين إلى علاقاتهم الشخصية لإيجاد الوظائف، ومنها العائلة والأصدقاء. ويضيف التقرير أن هذه الطريقة المتّبعة لإيجاد وظيفة تحدّ من كلفة البحث بالنسبة إلى بعض الباحثين، إلاّ أنها لا تحقق مطابقة فضلى للمهارات المتاحة مع الشركات التي تبحث عن مهارات كهذه، إذ إن هذه الشركات لا تنظر عندها سوى في ملفات عدد أدنى من المرشحين للوظيفة لتقويم مهاراتهم.
لكن لا تقتصر الكلفة الاقتصادية لاستخدام العلاقات الشخصية فحسب على سوء مطابقة المهارات. توقّف تقرير البنك الدولي عند هذه النقطة، إذ لم يسعَ إلى تفصيل ما تنطوي عليه عبارة «العائلة والأصدقاء»، أي ما نوع العلاقات التي تندرج في هذه الفئة؟ وهل هذه العلاقات متكافئة؟ على سبيل المثال، هل تُعدّ الاستفادة من علاقات الوالد معادلة للجوء إلى السياسيين لإيجاد الوظائف في القطاع الخاص؟ وإن لم تكن معادلة لها، فمن الذي يلجأ إلى أي نوع من العلاقات؟ وما هي الآثار السياسية والاجتماعية لهذه الممارسات التي تتخطى سوق العمل؟
أجرى المركز اللبناني للدراسات ومنظمة «إنترناشونال ألرت» منذ بضعة أشهر مسحاً تناول 300 طالب من جامعات رسمية وخاصة مختارة، ومؤسسات معنية بالتدريب المهني، وسعى المسح إلى تحسين فهم هذه المسألة بالتحديد. تكشف دراستنا أن 55% من الطلاب يلجأوون إلى الصلات الاجتماعية لإيجاد الوظائف، تليها وسائل أخرى للبحث عن الوظائف، ومنها الإعلانات عن وظائف واللجوء إلى مكاتب التوظيف ومعارض الوظائف. هذه الخلاصة غير مفاجئة في بلد تعدّ فيه العلاقات العائلية والعشائرية أساسية. ومن غير المفاجئ أيضاً أن نجد أن الطلاب الذين يتحدّرون من عائلات عالية الدخل أكثر أرجحية أن يلجأوا إلى الصلات الاجتماعية. ففي نهاية المطاف، يبدو أن أفراد عائلاتهم يحتلّون مكانة اقتصادية مناسبة، ومن المؤسف هدر فرصة الاستفادة من شبكة الصلات هذه، وإيجاد وظيفة في بلد باتت فيه الواسطة هي القاعدة لا الاستثناء.
لكن المثير للقلق هو الدور الواسع النطاق الذي تؤديه الصلات السياسية في إيجاد الوظائف في القطاع الخاص. قال 20% على الأقل من الطلاب إنهم يلجأون إلى الصلات السياسية، ويرى 73% أن الصلات السياسية مهمة لإيجاد الوظائف. وخلافاً للطلاب الذين يلجأون إلى الصلات الاجتماعية، فإن الطلاب الذين يلجأون إلى الصلات السياسية أقل حظوة اقتصادياً، لكنهم ينتمون إلى عائلات أكبر عدداً، وآباؤهم أكثر نشاطاً في المجال السياسي. يعني ذلك أن من يلجأ إلى الصلات السياسية يستند إلى حجم عائلته الانتخابي. فمن يمكنه أن يضمن أعداداً كبيرة من الأصوات لرجال السياسة يسعَ إلى الحصول على وظائف لأبنائه في المقابل. إن عملية تبادل الأصوات مقابل الوظائف هذه تخلّف تبعتين مهمتين: هي تؤدي أولاً إلى تشويه سوق العمل، إذ إن الخدمات السياسية تطغى على المهارات والاستحقاق. فالسياسيون الذين يملكون الحصص في القطاع الخاص قد يختارون توظيف المتخرجين الشباب، الذين ينتمون إلى عائلات بإمكانها تقديم الأصوات، والسياسيون الذين يفتقرون إلى قاعدة اقتصادية خاصة بهم يمارسون الضغط على القطاع الخاص لتوظيف أشخاص من بين ناخبيهم. ثانياً، تشوّه هذه الممارسة أيضاً مفهوم الانتخابات، إذ يختار عندها الناخبون رجال السياسة الذين يمنحونهم الوظائف، بدل التصويت لمن يصمم السياسات الفعالة ويطبّقها. فعلياً، تعزز هذه الممارسة نظام علاقات المحسوبية، إذ يتخلى الناخبون عن حقوقهم السياسية للحصول على منافع محدودة.
ولا تقتصر التبعات على ذلك، بل تبدو الطائفية عنصراً أساسياً في اللجوء إلى الصلات السياسية. في الواقع، تظهر الدراسة أن من يشعر بأن «طائفته تحدد هويته»، ومن «ينتمي إلى عائلة على صلة بقادة دينيين» أكثر أرجحية أن يلجأ إلى الصلات السياسية. ولعلّ ذلك غير مفاجئ، إذ إن الأفراد ذوي الهوية الطائفية البارزة يستخدمون علاقاتهم بالقادة الدينيين لإيجاد الوظائف في القطاع الخاص، من خلال صلات رجال الدين برجال السياسة. ولعلّ هذه الممارسة تلقي الضوء على دور الطائفية في إيجاد الوظائف في القطاع الخاص. في هذه الحالة، تطرح هذه المعطيات مشكلة الفعالية في سوق العمل، حيث لا تتطابق المهارات والوظائف، لكن الهوية الطائفية إلى جانب ثقل العائلة السياسي، هما اللذان يحددان من الذي يحصل على وظيفة في لبنان. ومن يفتقر إلى هذه «الصفات» أكثر أرجحية أن يهاجر بحثاً عن عمل في الخارج.
تلخيصاً، بعد التوصل إلى فهم أفضل لمعنى عبارة «الأصدقاء والعائلة» التي يذكرها المتخرّجون للحصول على عمل، ندرك أن تكاليف هذه الممارسة في لبنان لا تقتصر على سوق العمل فحسب. فطريقة البحث عن العمل هذه تمثل عائقاً سياسياً واجتماعياً على السواء، إذ تؤثر في السلوك الانتخابي، وتغذي الثغر الاقتصادية الاجتماعية بين فئات السكان، وتظهر أن هجرة الشباب غير مرتبطة بطائفة الشخص بحد ذاته، بل بمدى طائفيته.
* المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات