يتابع العديد من المثقفين الفلسطينيين، من دون وجل ولا خجل، الإعراب عن ميول عنصرية صريحة إزاء الدولة الأردنية والشعب الأردني. من المستهجَن أن يكون الضحية جلّاداً؛ فالفلسطيني هو موضع عنصريات مركّبة، صهيونية وغربية وعربية. ومن المفترَض أن يكون حسّاساً بصورة خاصة إزاء ممارسة العنصرية نحو الآخر، وخصوصاً الآخر الأردني، الذي تميّز عن الجميع بأنه لم يمارس أي عنصرية ضد الفلسطينيين، بل استقبلهم ولا يزال بروح الأخوة، وتقاسم معهم حياته ووطنه ودولته.غير واضح السبب الذي دفع زياد منى، الآن، إلى استعادة مقولة «شرق الأردن: كيان وظيفي» («الأخبار»، العدد ٢٠١٩، ٣ حزيران ٢٠١٣)، لكن قد يكون ذلك ناجماً عن التحركات العراقية والإيرانية (والسورية) لاجتذاب السياسة الأردنية إلى موقع حيادي بين المحور الأميركي الخليجي التركي، والمحور الروسي الإيراني المشرقي. زياد منى يقول، إذاً، لمحور المقاومة: لا تحاولوا مع الأردن هذا كيان وظيفي!
غير أن الكاتب يتجاهل السبب وراء تلك التحركات، ألا وهو ظهور حركة وطنية شعبية أردنية متنامية ومؤثرة، ولها امتدادات داخل الدولة وأجهزتها، وقفت، ومنذ وقت مبكر، إلى جانب الجمهورية العربية السورية وجيشها ونظامها ووحدتها وخطها المقاوم. وكلّ مَن تابع التطورات السياسية في الأردن، خلال السنتين الماضيتين، لا بدّ أنه لمس كيف أثّرت الحركة الوطنية على القرار السياسي، فلجمته حيناً وتصدت له حيناً وأربكته دائماً، وفرضت عليه خفض مستوى التدخلات في سوريا، وسريتها، وألزمته بخطاب سياسي إيجابي.
يؤكد المسؤولون السوريون، دائماً، أن الحدود الأردنية ـ السورية، على رغم ما شهدته من خروق مؤذية، كانت، خلال الحرب كلها، الأهدأ والأقل إضراراً بدمشق مقارنة بالحدود الأخرى. ويُسجّل للحركة الوطنية الأردنية، أنها شكّلت، ولا تزال، أقصى ما يمكن من الممانعة الداخلية للتورّط في سوريا.
قدرات الحركة الوطنية محدودة، وبالتالي فإنها لم تستطع أن تقدّم شيئاً ملموساً يمنع غزو العراق عام 2003، لكنها عبأت الشعب الأردني ضده كما لم يحصل في بلد عربي آخر. وهذا هو الحال نفسه في كل مفاصل التضامن مع الشعب الفلسطيني.
داخلياً، شهد الأردن منذ 2010، حراكاً شعبياً لم يضيّع بوصلته الوطنية والقومية، ولم يغرق في الأوهام الليبرالية، بل ركّز، ولا يزال، على مهمات دحر التبعية واسقاط النهج النيوليبرالي وشبكة الفساد ووقف الخصخصة، وكذلك الشروع في برنامج تنموي وطني في المحافظات. ومن المعروف أن أبناء المحافظات هم الذين يشكلون عصب الحراك الشعبي الأردني.
لا نجادل زياد منى، بالطبع، في حقه في التنديد بسياسات النظام الأردني؛ فنحن نفعل ذلك بصورة مثابرة وصريحة، لكن ليس من حقه أن يستغل تلك السياسات من أجل إلغاء التاريخ الاجتماعي والسياسي لشرق الأردن وشعبه، بعبارات عنصرية تتبنى عنصرية الاستشراق والوثائق البريطانية، وتغضّ بصرها عن واقع المجتمع الأردني المتبلور في دولة وطنية لها هويتها وحضورها ومصالحها وحركتها الوطنية. من المؤسف أن زياد منى لا يزال يعتقد أن تاريخ بلد ما يمكن ـ ويصحّ ـ النظر إليه من وجهة نظر أدبيات ووثائق مستعمريه، فيدعي أن كل حكاية الأردن ونضاله ضد الانتداب ومن أجل التحرر الوطني في الخمسينيات وحروبه ضد إسرائيل وانخراط أبنائه في بناء الدولة وتحديثها وميولهم القومية والديموقراطية، وإصرارهم على فك التبعية مع الإمبريالية، وما أنتجوه من فكر وأدب ومبادرات وقامات ثقافية ونضالية، وما بنوه من أحزاب وهيئات إلخ... كل تلك الحكاية الواقعية على الأرض، يمكن إلغاؤها وتلخيص «شرق الأردن» بكونه «منطقة عازلة» وكياناً مختلقاً.
يمثّل شرق الأردن أحد أقاليم بلاد الشام، وتتمثل خصوصيته في بنيته الاجتماعية القائمة على اتحادات عشائر نصف بدوية ـ نصف فلاحية، صاغت شخصيته وثقافته المحلية ولهجته وأدبه الشعبي... إلخ. ويمتد هذا الإقليم في سلسلة الجبال والهضاب الواقعة شرقي نهر الأردن، من جنوبي دمشق حتى خليج العقبة. وقد قطعت معاهدة سان ريمو الاستعمارية، الإقليم الأردني عن سياقه السوري، كما قطعته من الداخل بتقسيم منطقة حوران، بين المملكة والجمهورية.
عندما هاجم الجنرال غورو دمشق، كان مئات الفرسان الأردنيين، قد هبوا لنجدة يوسف العظمة في ميسلون، لكن المستعمر الفرنسي كان قد أحكم قبضته على البلاد، وتوقف عند حدود التقسيم. وفي سنة ميسلون نفسها، 1920، قرر اجتماع الشخصيات الوطنية والزعامات العشائرية الأردنية، تأسيس دولة في شرق الأردن، تكون امتداداً للدولة العربية السورية؛ ولذلك اتخذ الاجتماع العلم السوري ذا النجمة، علماً للدولة الجديدة (وهو نفسه علم الأردن الحالي).
في العشرينيات والثلاثينيات، ازدهرت الحركة الوطنية ضد الانتداب، وقدمت دعماً واسعاً للمناضلين في سوريا وفلسطين. ولا أريد الاسترسال في عرض تاريخي، لكنني أريد التأكيد على أنه بنشأة الدولة في الأردن، نشأ صراع مستمر بين سياسات النظام والحركة الوطنية، طبع كل تاريخ البلد، إنما في سياق بناء الدولة الوطنية التي نريدها، دولة تنموية مقاومة وتريدها الفئات الحاكمة دولة كومبرادورية استسلامية. وحدث، في مراحل عديدة من تاريخ الأردن، أن فرضت الحركة الوطنية، جزءاً من برنامجها الديموقراطي والاجتماعي في السياسات الحكومية.
لم يعد مقبولاً الكلام عن شرق الأردن بهذه الخفّة العنصرية، واستعادة المنظور الاستشراقي الاستعماري في فترة الانتداب، للنظر إلى واقع الدولة الأردنية عام 2013. وأخيراً، ما الذي يضرّ زياد منى في محاولتنا الدفع بالأردن نحو اعتماد سياسات قومية وتقدمية؟ إنه يرى ذلك، كمستشرق وعنصري ومتوافق، حكماً، مع الرؤيا الصهيونية، مستحيلاً، لأن الأردن وشعبه «مختلقان» (ولاحظوا أنه يمكن أن يكون، بالتالي، وطناً بديلاً في تكرار للمقولة الصهيونية عن فلسطين: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، ونحن نرى بلدنا، انطلاقاً من سيرورة النضال الوطني والاجتماعي، دولة يمكنها أن تحمل مشروعاً قومياً وتنموياً، في إطار اتحاد البلدان المشرقية.
* كاتب أردني