بعد فترة قصيرة نسبياً على اندلاع الأزمة السورية، تبلورت معادلة لم يعد فيها لحديث السياسة والتسويات والحلول مكان، ولو على سبيل المناورة. كلا طرفي الصراع سعيا إلى الحسم العسكري: النظام الذي اعتاد التفرّد واللجوء دائماً إلى القوة، استسهل اللجوء مجدداً إلى الخيار الأمني دون السياسي. والمعارضة، بدورها، توهمت أن «النموذج الليبي» قابل للتكرار في سوريا. الفريقان افترقا في كل شيء واتفقا، فقط، على نبذ الحلول السياسية وعلى محاولة الانتصار بالضربة القاضية.مع تمادي الأزمة، كانت العوامل الخارجية، كما في كل صراع مشابه، تتقدم على حساب العوامل الداخلية. ومع تقدم الوقت تقدمت الحسابات والعوامل الإقليمية والدولية على كل ما عداها.
مع تمادي الصراع، أيضاً، بدأت تسقط الخطوط الحمراء، ربما كما لم يحصل في أي صراع مشابه، وخصوصاً تلك التي شهدتها بلدان ما سمي «الربيع العربي»: الجيش السوري استخدم كل أسلحته في خدمة مواجهة ما سمّاه النظام السوري «الحرب الكونية» عليه. الأطراف العربية اندفعت، دون ضوابط، في دعم المعارضة والدعوة لتسليحها مع ما رافق ذلك من إسقاط عضوية سوريا في الجامعة العربية وإحلال ممثلي المعارضة في المقعد السوري. الإعلام العربي والدولي ومعظم المحلي نزع قفازاته، وانخرط في المعركة محرضاً ومعبئاً ومبالغاً ومفبركاً دون، حتى استدراك، أو حفظ خط رجعة، أو مراعاة بعض الموضوعية.
هي، حقاً، «أم المعارك» تلك التي تجري في سوريا. من لم ينخرط فيها بالكامل يعبّر ليس عن حذر أو عن تردّد، بل عن شكل من الانخراط هو الأكثر ملاءمة له. ينطبق ذلك على الموقفين الأميركي والإسرائيلي، وكذلك على موقف عدد من القوى السياسية الأبرز في لبنان، وبينها بالتأكيد حزب «المستقبل» وحزب الله.
تميّز موقف الولايات المتحدة الأميركية بالتأني وعدم المبادرة، خلافاً لما تطالب به المعارضة المسلحة، وتلك خصوصاً، التي توجه مواقفها قيادة المملكة العربية السعودية ودولة قطر وتركيا. فسياسة واشنطن، مع الرئيس باراك أوباما، أكثر خبثاً واستفادة من «إخفاقات» سياسات بوش الابن في كل من العراق وأفغانستان. تدير واشنطن سياسة استنزاف لسوريا الدولة والدور والارتباطات والتحالفات. وهي تستنزف، أيضاً، من خلال الأزمة السورية، كلّاً من إيران وحزب الله. إنها راضية تماماً عما يحصل، ولهذا ردعت سابقاً محاولات التدخل الإسرائيلية التي من شأنها إرباك المسار الاستنزافي المذكور.
كذلك لا بأس من استنزاف روسيا، أيضاً، الطامحة إلى دور الشريك الدولي الأكثر تأثيراً مع واشنطن وبعدها. واشنطن الأكثر واقعية في ظل إدارة أوباما والأكثر ضعفاً بعد خيبات سياساتها الخارجية وكبواتها الاقتصادية، لا تفرِّط بسهولة، مع ذلك، بمصالحها وبمواقعها وبسعيها للحصول، دائماً، على حصة الأسد. روسيا، إذاً، أمام اختبار طويل، وتبدو قيادتها الراهنة، عبر الكثير من المؤشرات، مصممة على اجتيازه بنجاح. إنّه، أيضاً، أساس العلاقة الوثيقة بين موسكو ودمشق. وهو أيضاً الذي حفَّز وشجع مواقف وأدواراً أخرى، منها الموقف الصيني.
والولايات المتحدة حذرة، بدورها، حيال البدائل في سوريا. هي تستنزف البديل الأصولي المتعجل القطاف. وتشجع هذا البديل على تركيز كل قواه في سوريا، آملةً استخدامه وإضعافه ومن ثم منعه من جني الثمار. لا جدال في أن هذا البديل عاجز عن تقديم أي صيغة قابلة للحياة في سوريا أو في سواها. فشل «الإخوان» في مصر، رغم أنهم أكثر واقعية وبراغماتية وأقل تطرفاً وتأدلجاً، يغري بخوض مغامرة الاستخدام دون مخاطر حقيقية. ومع الوقت تراهن واشنطن، أنها من خلال إضعاف الخصوم واستنزاف الحلفاء، ومن خلال القدرات والخبرات والثروات التي تتمتع بها أو تتحكم بوجهتها، تستطيع أن تكون هي الرابح الأكبر إن لم تكن الرابح الوحيد أحياناً. لبنان الذي كان يجلس لاعبوه في مقاعد الاحتياط، رغم بعض المشاركات المحدودة، انتقل في الآونة الأخيرة إلى مشاركة أوسع. التطورات الميدانية أمْلت تدخلاً واسعاً من قبل حزب الله. استدرج هذا التدخل تدخلاً إسرائيلياً بطلب أميركي وليس فقط بإجازة أميركية. الهدف منع الإخلال بالتوازن، أي منع انتصار النظام وإخفاق المعارضة. ما زال قرار عدم توسيع رقعة «الحرب» إلى لبنان قراراً نافذاً في حسابات واشنطن على الأقل. الهدف، دائماً، هو تسليط الضوء، تحديداً، على الأزمة السورية من جهة، ومنع دمشق من أن تعوّض بعض خساراتها خارج ساحتها من جهة ثانية.
لكن الأمور مفتوحة على احتمالات ليست جميعها تحت السيطرة. هي قد تصبح خارج السيطرة عندما تستدعي ذلك «حشرة» أو حاجة أحد الأطراف الأساسيين.
ورغم كل ذلك، لا مخاوف حقيقية من اندلاع صراع شامل في المنطقة. فواشنطن لا تريده، مكتفية بسياسة استنزاف خصومها، ومتدخلة عندما تقتضي الحاجة لردع الإخلال بالتوازن، كما حصل عبر الغارة الإسرائيلية الأخيرة والضخمة على دمشق. أما دمشق، فليست قادرة على الرد. هي لم تكن قادرة على ذلك، بشكل مباشر، قبل أزمتها الخطيرة الراهنة، فكيف في خضمها. أما لاعبو الاحتياط اللبناني، فسيبقى دورهم في لبنان مؤجلاً حتى إشعار آخر، فيما دورهم في الداخل السوري لم يتوقف في أي يوم، وإن كانت النسب والقدرات تتفاوت بين فريق وآخر، ومعهما حجم المشاركة ومستوى التأثير.
تخوض السلطة السورية معركة البقاء وفق الطريقة السابقة التي لم «تحسن» سواها. تخوض المعارضة معركة إسقاط تلك السلطة. يُسهم الطرفان في معركة تدمير مقومات سوريا الدولة والدور والكيان. تخوض واشنطن وحليفاتها (من إسرائيل إلى السعودية) معركة لإسقاط «محور الممانعة». تخوض روسيا معركة شراكتها في تقرير مصير الأحداث ومسارها، ولو بشكل جزئي. يخوض اللبنانيون معارك سواهم، كالعادة، معرضين بلدهم مرة جديدة لأسوأ الاحتمالات.
لا أحد يخوض معركة الشعب السوري ولا المصير العربي والدفاع عن مصالح وثروات شعوب المنطقة وحقوقها. ذلك أن بعض الوسائل المعتمدة، قد بات ضررها، رغم بعض النيات الحسنة، كبيراً وخطيراً وفادحاً.
لا بد من نهج «ممانعة» من نوع جديد ينهض من خلال الاستفادة من العبر ومن خلال المبادرة والتوحد.
* كاتب وسياسي لبناني